مقالات علمية للأعضاء

-البروفيسور سليم زاروبي مئة عام على النظرية النسبية العامة لأينشتاين

 سليم زاروبي
​فيزيائي فلك


يحتفل العالم هذا الشهر بالذكرى المئة لأحد أعظم إنجازات الجنس البشري الفكرية والعلمية: النظرية النسبية العامة لأينشتاين. نشر أينشتاين أول مقال من أربعةٍ حول هذه النظرية في ٤ نوفمبر ١٩١٥، بعد سنين طويلة من العمل الدؤوب، للتوفيق بين قوة الجاذبية وبين أفكاره حول الفراغ والزمن (سأستعمل في باقي المقال مصطلح الزمكان)، التي طورها قبل عشر سنوات في عام ١٩٠٥، والمعروفة بالنظرية النسبية الخاصة. قد تكون النظرية النسبية العامة أعظم إنجاز لعقل إنسان واحد على مدى التاريخ البشري. ففيها قلب أينشتاين مفاهيمنا الأساسية عن الفيزياء والهندسة، وأظهر أن بينهما علاقة عضوية حميمة لم يتخيلها أحد من قبل: فالمادة والطاقة تحددان صفات الزمكان، والزمكان يحدد كيف تتحرك المادة. اليوم فقط، وبعد مئة سنة من هذه النظرية، نفهم عمق تأثيرها وأبعادها التي كانت ستفاجئ، وربما تقلق، أينشتاين نفسه لو ظل حياً حتى اليوم٠
شهد القرن العشرون في بدايته ثورتين في الفيزياء أدتا إلى نشوء نظريتين هما حجرا الأساس في الفيزياء الحديثة. النظرية الأولى، والتي تُعرف باسم نظرية الكم ، تصف تصرف المادة في الأبعاد الصغيرة جدا، كمبنى الذرّة. طوَّر هذه النظرية عدد كبير من العلماء، بضمنهم أينشتاين نفسه، بهدف تفسير العديد من الظواهر الذرّية وغيرها، التي لم تجد تفسيرها في قوانين الفيزياء المعروفة في حينه. أما النظرية الثانية، والتي تبحث في تصرف المادة على أبعاد كبيرة جدا، وتُعرَف بالنظرية النسبية العامة، فقد طورها شخص واحد، أينشتاين، ومن دون أي دافع تجريبي أو رصدي يحثه على اقتراح نظرية جديدة، بل أتى بها نتيجة طرحه لأسئلة عميقة حول العلاقة بين مفاهيم فيزيائية معروفة جيدا: قوة الجاذبية والزمكان٠
إنجاز أينشتاين الفكري فريد من نوعه، فعمق نظريته الفيزيائي وجمالها الرياضي (من رياضيات) غير مسبوقين في تاريخ العلوم الحديثة. نقطة الانطلاق لهذه النظرية أتت من فكرة خطرت لأينشتاين في عام ١٩٠٧، وصفها بأنها "أسعد فكرة في حياته". وتلك الفكرة، التي واتته عندما كان يجلس في مكتبه ورأى من نافذته عمالا يعملون على سطح المبنى المقابل، هي أن الأجسام خلال سقوطها تكون في حالة انعدام الوزن. أي أن انعدام الوزن مكافئ للسقوط الحر، كما هي الحال عند رواد الفضاء، فهم يتحركون تحت تأثير الجاذبية عند دورانهم حول الأرض. تمخّض عن هذه الفكرة أحد المبدأين الأساسيين في نظريته والمعروف بـ"مبدأ التكافؤ"-− المبدأ الآخر في نظريته هو مبدأ النسبية الذي استعمله أيضا في وضعه للنظرية النسبية الخاصة. هذه الفكرة الصغيرة التي توصل إليها بخياله الجامح وفكره الوقاد أدّت الى انقلاب كامل في الفيزياء وفهمها للطبيعة٠
يذكر أن أينشتاين أكمل نظريته وهو يعمل في جامعة برلين خلال سنوات الحرب العالمية الأولى. عارض أينشتاين هذه الحرب بشدة في وقت كان فيه الشعور القومي الألماني في أوجه − كما كانت الحال في الدول الأوروبية الأخرى في حينه. اعتبر أينشتاين هذه الحرب فشلا للانسانيه وتحدّى مجتمعه قاطبة برفضه دعم الحرب, متحملا اتهام بعضهم له بالخيانة. فهذا الموقف يبين منزلة أينشتاين الإنسانية لا العلمية فقط.
لكي يحصل القارئ على فكرة مبسطة حول العلاقة بين الجاذبية وهندسة الزمكان في النظرية النسبية العامة سنلجأ إلى الإستعارة التالية. تخيل سريراً مرتباً مغطّاً بشرشف ممدود بشكل مهندم على وجهه. سطح هذا الشرشف المستوي هو كهندسة الفراغ المستوية. فكر الآن بماذا يحدث إذا وضعت بعض الكرات الصغيرة ذات أوزان مختلفة بشكل متفرق على سطح الشرشف. ستُغيِّر هذه الكرات من طبيعة سطح الشرشف حيث إنها ستكوِّن تجويفات حولها، بحيث تُحدِث الكرات الثقيله تجويفات أعمق مقارنة بالكرات الخفيفة. هذا يشبه ما يحدث في النظرية النسبية العامة، فوجود المادة يُنتج إنحناءات وتجويفات في هندسة الفراغ تماما كما تفعل الكرات التي وضعناها على وجه الشرشف المهندم. وبالمقابل، إذا دحرجنا كرة صغيرة جدا على سطح الشرشف المتعرج فإنها لن تسير بخط مستقيم، بل ستتبع الانحناءات والتجوفات عليه، تماما كما تؤثرهندسة الزمكان في حركة الأجسام٠
تَنَبَأَ أينشتاين، على أساس هذا التغيير الجذري في طبيعة هندسة الفراغ نتيجة لوجود المادة والجاذبية، بأن الشمس ستؤدي إلى انحراف في مسار الضوء الآتي من نجوم بعيدة خاصة حين يمرالضوء بقربها، كما يبين الرسم. فإذا افترضنا مثلا بأن هنالك نجماً يقع خلف الشمس بالنسبة للأرض، فبحسب النظرية النسبية العامة سوف نراه يظهر من خلفها، نتيجة لحركتها على صفحة السماء، قبل ما نتوقعه وذلك نتيجة للانحاء الذي تُحدثُه الشمس في مسار ضوئه.
مبدئيا، من الممكن فحص انحناء ضوء النجوم بواسطة الشمس بسهولة، إذ تحجب الشمس خلال سيرها في صفحة السماء الكثير من النجوم يوميا. نستطيع فحص زمن ظهورهذه النجوم التي كانت محجوبة وراء الشمس لنحدد هل كان مسار ضوء هذه النجوم مستقيما أم منحنيا. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، فضوء الشمس نفسها يطغى على ضوء هذه النجوم ويمنعنا من رؤيتها (لهذا السبب نفسه لا نرى نجوما خلال النهار). لهذا اقترح أينشتاين أن يتم القيام بهذه التجربه خلال الحدث الوحيد الذي يحجب ضوء الشمس عن الأرض في وضح النهار، أي خلال كسوف الشمس. وبالفعل قاد عالم الفلك البريطاني الشهير أرثور إدينچتون بعثة إلى جزيرة برنسيب قرب الساحل الشرقي الأفريقي لقياس ظهور النجوم من خلف الشمس، خلال كسوفها مؤكدةً صحة تنبؤات النظرية النسبية العامة٠
انتشرت نتيجة هذه التجربة في الأوساط العلمية والشعبية كانتشار النار في الهشيم. وأصبح أينشتاين بين ليلة وضحاها أشهر عالم على وجه الأرض، تزين صورته الصفحات الرئيسية لأهم الصحف في العالم. كما وخصصت هذه الصحف العديد من صفحاتها في محاولة لشرح هذه النظرية لقرائها لكن دون جدوى، فشرح النظرية النسبية العامة ببساطة كان وما زال أمراً صعباً جداً. ومن القصص الطريفة التي يجدر ذكرها أن أحدهم توجه لأرثور إدينچتون في عام ١٩١٩ قائلا: "بروفسور إدينچتون، لا بد أنك واحد من ثلاثة أشخاص في العالم الذين يفهمون النظرية النسبية العامة"، وعندما تأخر إدينچتون في الرد عليه قال له الرجل "لا تكن متواضعا بروفسور إدينچتون"، فعندها أجابه إدينچتون "على العكس، فأنا فقط أحاول أن أفكر من هو الشخص الثالث" (أي أن أينشتاين وهوفقط في كل العالم يفهمان هذه النظرية)٠
شهد أينشتاين خلال حياته عددا من النجاحات الكبيرة لنظريته، كتنبئه بالتغيير الطفيف في حركة الكوكب السيار عطارد نتيجة قربه من الشمس بحوالي درجة واحدة كل مئة قرن. لكن أهم هذه النجاحات هو تنبؤ النظرية النسبية العامة بانتشار الكون، ولهذا الموضوع قصة مثيرة للاهتمام. لقد أدرك أينشتاين بأن الجاذبية لن تسمح للكون بأن يكون ساكنا، فهي قوة تؤدي دائما لجذب المادة بعضها لبعض (لا يمكن إلغاء قوة الجاذبية)، مما ينتج عن كون دائم التغير. هذه النتيجة لم تعجب أينشتاين من منطلقات فلسفية، فقد اعتقد بأن كونا "أزليا" يجب أن يكون ساكناً. لهذا أضاف أينشتاين، لمعادلات النظرية النسبية العامة التي تصف الكون، حداً ثابتاً جديداً يؤدي لقوة تنافر تلغي تأثير الجاذبية، وسمّى هذا الحد بالثابت الكوني. وحين أرسل له العالم الروسي الكسندر فريدمان مقالا حول انتشار الكون، أهمله أينشتاين ووصفه بأنه مجرد تمرين في الرياضيات (أي بدون عواقب فيزيائية). طبعا كان أينشتاين مخطئا، ففي عام ١٩٢٩ نشر عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل نتائجه حول حركة المجرات التي بينت، بما أصبح يعرف بقانون هابل، أن الكون هو فعلا في حالة انتشار، بالضبط كما تنبأ فريدمان. هذا مثال آخر عن مفاجأة الطبيعة لنا دائما وتبيين أن الآراء المسبقة كثيرا ما تكون مرشد ضلال، حتى لأعظم العلماء. بعد هذا الاكتشاف، اعترف أينشتاين بخطئه ووصف الثابت الكوني بانه أكبر خطأ في حياته٠
في السنوات التي مرت منذ وفاة أينشاين في عام ١٩٥٥، أصبحنا ندرك تدريجيا مدى أهمية نظريته وأبعادها. فهي تتنبأ بوجود ثقوب سوداء لا تسمح حتى للضوء بالهروب منها، تتكون عندما تموت النجوم الكبيرة، وتؤدي خلال تكونها إلى انفجار هائل لطبقات النجم الخارجية يسمى بانفجار السوبرنوڤا. تزن هذه الثقوب السوداء أضعاف كتلة الشمس على الأقل. بل وأكثر من ذلك، فنحن نعرف اليوم بأن هنالك ثقوبا سوداء عملاقة، تكونت بعد نشوء الكون بقليل، تقطن في مركز المجرات، تتراوح كتلتها بين مليون الى عدة مليارات مرة كتلة الشمس (الثقب الأسود في مركز مجرتنا يزن حوالي ٤ ملايين كتلة شمسنا). وهذه الأجسام غريبة جدا، حتى كدنا نحسب بأنه قد اختلط الزمان بالمكان والخيال بالواقع على العلماء الذين يدرسونها٠
أصبحنا أيضا نرى كيف تُركِّز عناقيد المجرات التي تحوي آلاف المجرات الضوء الآتي من خلفها، كما تركز العدسات الزجاجية الضوء، مكونةً عدة صور للأجسام نفسها. يستخدم فيزيائيو الفلك هذه الظاهرة، التي تعرف باسم العدسة الجاذبية ، لقياس وزن عناقيد المجرات ليستنتجوا أن كمية المادة المسؤولة عن العدسة الجاذبية هي أكبر بكثير مما نراه في المجرات والأجسام المضيئة. هذه المادة غير المرئية، والتي تختلف جوهريا عن المادة التي تكون العناصر الكيميائية المألوفة للبشر، تسمى بالمادة المعتمة٠
ولعل أهم نتيجة لنظرية أينشتاين هي أننا نعرف اليوم، بفضلها، مكونات الكون بدقة كبيرة. فنحن نعرف بأن المادة العادية التي منها صُنع كل شيء حولنا تكِّون فقط حوالي ٥٪ من الكون، وحوالي ال ٢٥٪ منه هي مادة معتمة لا نعرف ما هي ولكننا نعرف صفاتها. وأما ال٧٠٪ الباقية من الكون فهي على شكل طاقة معتمة، لا نعرف عنها الكثير سوى أنها تدفع الكون للتسارع بالانتشار، كما يفعل الثابت الكوني الذي اقترحه أينشتاين وذكرناه سابقا (فهو في نهاية المطاف لم يكن مخطئأ تماما). هذا يتركنا في وضع غريب، فنحن نعرف بالضبط كم من المادة والطاقة يوجد في الكون، ولكننا لا نعرف ماهية ٩٥٪ من هذه المكونات (هذا لا يعني أننا لن نعرفها مستقبلا). تمكننا هذه النظرية أيضا من أن نعرف تاريخ الكون وماذا حدث له في مراحله المختلفة، منذ بدايته وحتى الآن. فأجمل وأعمق ما تمخضت عنه النظرية النسبية العامة، هو أنه بفضل أينشتاين ولأول مرة في تاريخنا كبشر، نحن نفهم علميا قصة كوننا٠
هنالك الكثير من الاستعمالات العملية لنظريات أينشتاين مثل استعمال نظام التموضع العالمي، الذي يمكننا من الملاحة والتموضع بواسطة الأقمار الصناعية. لكن أهم إنجازاته هي الإنجازات الفكرية التي تمكننا من فهم كوننا وواقعنا الموضوعي بعمق. كان أينشتاين مبدعاً في طرح أسئلة جمعت بين العلم والفلسفة. فقد توخى دائما في أبحاثه بأن يجيب على أسئلة عميقة، وتميزت إجاباته دائما بأناقتها وجمالها، ولكن في الوقت نفسه أيضا، بجموح خيالها وتحديها للفرضيات المسبقة والأفكار المقبولة. فحتى عندما أخطأ في اعتراضه على نظرية معينة يحملها أقرانه، أضاف لتلك النظرية الكثير، بمجرد طرحه أسئلة عميقة حولها أجبَرَتهم على التعمق أكثر في فهمهم لنظريتهم.
أنهي مقالي هذا باقتباس من خطاب قصير لجورج برنارد شو ألقاه على شرف أينشتاين عام ١٩٣٠، قال فيه (وسأقتبس هنا بتصرف للإيجاز): ""نابليون ورجال عظماء مثله بنوا إمبراطوريات. ولكن أينشتاين وأمثاله فعلوا أكثر من ذلك, فهم لم يبنوا إمبراطوريات بل صنعوا أكوانا كاملة، وهذا من غير أن يُسيلوا قطرة واحدة من دم إخوانهم البشر". فأينشتاين هو ليس فقط عالم الفيزياء الكبير، بل هو الرجل الذي تحدى مجتمعه ليعارض الحرب، الفيزيائي الذي تساءل عن الأبعاد الفلسفية والإبيستمولوجية لنظرياتنا العلمية (بالذات في نقاشه مع الفيزيائي الشهير نيلز بوهر Niels Bohr)، هو العبقري المتواضع صاحب الظل الخفيف، وفوق كل شيء هو الإنسان الذي عاش خلال حربين قتلتا الملايين ودمرتا دولا ومجتمعات بأكملها، لكنهما لم تنجحا في تشويه إنسانيته وفكره٠

خروننجن, هولندا.تشرين الثاني ٢٠١٥

النشرة البريدية

الرجاء تعبئة التفاصيل ادناه لتلقي نشرتنا البريدية