مقالات علمية للأعضاء

شيءٌ من عدم: الكون ونظرية الكم وطبيعة الواقع العجيبة-البروفيسور سليم زاروبي(كامل)

 شهد الربع الأوّل من القرن العشرين ثورةً كبيرةً في عالم الفيزياء انبثق عنها نظريتان؛ الأولى هي النظريّة النسبيّة العامّة، التّي تحكم قوة الجاذبيّة وبالتّالي الأبعاد الكبيرة، أمّا الثانية، التّي هي موضوعنا هنا، فهي النظريّة المعروفة باسم نظرية الكمّ (Quantum Theory)، وهي النظريّة الفيزيائيّة التّي تُعنى بقوانين الفيزياء التّي تحكم الأجسام الصغيرة جدًا، مثل الذرّة ونواتها.

تمخّضت نظريّة الكمّ عن واقعٍ غريبٍ جدًا، بعيدٍ كلّ البُعد عن فهمنا السليقي للطّبيعة وقوانينها، وأدّت إلى شرخٍ كبيرٍ بين علماءِ الفيزياء حول فهمهم للواقع الموضوعي ومعناه. على الرغم من هذا النقاش الكبير، تعدّ نظرية الكم أدّق نظريةٍ فيزيائيّةٍ عرفها البشر في تاريخهم، فهي تتفّق مع القياسات لبعض المقادير الفيزيائيّة (مثل عزم الإلكترون المغناطيسي) بدقة واحدٍ على مائة مليار، وهي دقّة تعادل قياس المسافة بين القدس وباريس بدقةٍ أكبر من سمك شعرةٍ واحدة!

تسمح نتائج هذه النظرية، وإن تبدو غريبة، بوجود الكون، وتُمكّن عمليّة الاشتعال التّي تضيء الشمس، وتحكم الذرّات والمركبات والدي-أن-إيه وغيرها ممّا لا يعدّ ولا يحصى من ظواهر فيزيائيّة وكيميائية وحتى بيولوجية.

تكمن هذه النتائج أيضاً وراء حياتنا المعاصرة المبنية على الاتصالات والإلكترونيات الحديثة والهواتف الذكية ونظام التموضع العالمي (GPS) وغيرها من الابتكارات الحديثة التّي نكاد لا نستطيع تخيّل حياتنا بدونها. تجدر الإشارة أن التقديرات تشير أن الصّناعات المرتبطّة بفيزياء الكمّ تشكّل اليوم أكثر من ٪30 من حجم الاقتصاد الأمريكي.

لا يناقش أي أحد في عالم الفيزياء صحّة الحسابات التّي تنتج عن نظريّة الكمّ، فكما ذكرت، دقتها تثير الدهشة والإعجاب. لكن الخلاف المركزيّ هو حول معناها وتداعياتها على فهم طبيعة الواقع وموضوعيته.

يُعتبر النقاش بين أينشتاين وبين العالم الدنماركي الشهير نيلس بوهر (Niels Bohr) ومؤيدو كلّ منهما من أشهر النقاشات التّي جرت حول هذا الموضوع.

يقف الخلاف في صلب هذا النقاش على الطبيعة الإحصائيّة (statistical) والاحتماليّة (probabilistic) لنظريّة الكمّ وإسقاطات قوانينها على معنى الواقع، وهو الأمر الذي رفضه أينشتاين بحدّة كاتبًا جملته الشّهيرة في رسالة إلى ماكس بورن (Max Born)، أحد عمالقة نظرية الكمّ، قائلًا: “أنا على قناعةٍ تامّة بأن [الله] لا يلعب النرد”.

سنعود إلى هذا النقاش وغيره لاحقًا، ولكني أودّ أن أشير إلى أن كثيرًا من الفيزيائيين يتجاهلون هذا النقاش ولا يفكرون فيه، بل يستعملون نظرية الكمّ بالرغم من عدم وضوح تفسيراتها. قال الفيزيائي الأمريكي ديفيد ميرمن (David Mermin) في تعبير عن هذا التوجّه السائد “اصمت وأحسب!” (!shut up and calculate)، معبًرا من خلاله عن الثقّة الكبيرة لعلماء الفيزياء بنتائج نظرية الكمّ وحساباتها والتقدّم الهائل الذّي نتج عنها في حلّ معضلاتٍ كثيرةٍ وفتح آفاقًا هائلةً أمام العلوم، ولكن أيضاً عن تجاهلهم المقصود للمعنى العميق لهذه النظرية ونتائجها المربكة في نفس الوقت.



إذًا فما هي هذه النظرية وما الغريب فيها وهل هناك حدود لتطبيقها؟

سوف أشرح في هذا المقال جذور نظريّة الكمّ، التاريخيّة والعلميّة، وأعرض نتائجها المهمّة، كما وسأسبر أعماقها وأتفحّص الواقع المربك الذي تصفه، وأذكر بعض التفسيرات الأساسية لها.

هدفي الأساسيّ من هذا المقال هو تفحّص علاقة إحدى النتائج الغريبة والتّي تظهر بشكلٍ طبيعي في نظرية الكمّ، وهي ما يسمى طاقة الفراغ (vacuum energy)، بنشأة كوننا قبل حوالي الـ 14 مليار عام، والانتشار المتسارع الذي نرصده في الكون في الحقبة الحالية!

جسمٌ أم موجة؟

دفع نجاح الفيزياء الكلاسيكيّة (الميكانيكا النيوتونيّة، نظريّة الأمواج ونظريّة الكهرومغناطيسيّة) الكبير في نهاية القرن التاسع عشر بالكثيرين إلى الظّنّ بأنّنا نفهم كل شيء عن القوانين الأساسيّة للطبيعة، وما تبقى للفيزيائيين هو فقط “استكمال بعض التفاصيل” (يعزى هذا القول خطأ للورد كلفين، أحد أكبر فيزيائيو القرن التاسع عشر).

كانت الثقّة بهذه الفيزياء كبيرة لدرجة أنّه كان هناك اعتقادٌ سائدٌ بأنّ الفيزياء هي موضوع “ميت” لأنّه لا يحمل في طياته أسئلة تدعو لأبحاث جدّية تكشف عن حقائق أساسيّة جديدة حول الطبيعة، فكلّ شيء مفهوم في قوانينها.

لم يكن أحد في حينه يحلم بحجم عواصف التّغيير العاتيّة التي ستحصل في بداية القرن العشرين والتّي ستغيّر كل ما نعرفه عن الطبيعة وقوانينها.

أتتنا هذه الّتغييرات بالنظريّة النسبيّة العامّة والخاصّة ونظريّة الكمّ التّي هي موضوعنا هنا. دعونا بدايةً نفحص ما هي جوانب الفيزياء الكلاسيكيّة المهمّة التي تتحداها نظريّة الكم وما هي التّغيرات التّي كان على العلماء التعايش معها.

هناك فرقٌ واضحٌ في الفيزياء الكلاسيكيّة بين الجسم والموجة. الجسم المادي هو عبارة عن تجمّع مادة يشغل حيّز ذو امتداد في الفراغ وله كتلةٌ معينةٌ، واعتبر أغلب علماء الفيزياء الكلاسيكيّة بأنّنا نستطيع تجزئة الأجسام الماديّة إلى جسيماتٍ صغيرةٍ نقطيّةٍ تقريبًا (corpusculism أو atomism)، وهي فكرةٌ تعود أساسًا للفيلسوف اليوناني ديمقريطس.

قد يكون الجسم المادي، كالغاز مثلًا، منتشرًا في حيّزٍ معيّن، ولكننا نستطيع مبدئيًا على الأقل، أن نحدّد مكان وسرعة كل جسيم من مركباته بدقةٍ كبيرةٍ جدًا، حتى لو كان هذا الجسم متناهيًا في الصّغر.

تحكم الأجسام بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة قوانين نيوتن وتحدّد حركتها بدقّةٍ كبيرةٍ، وهي قوانينٌ حتميّةٌ (deterministic laws) تتعامل مع الطّبيعة كآلةٍ ميكانيكيّةٍ كبيرةٍ، تعمل مثل آلية ساعة اليد وعقاربها، أو كما تتحرّك كرات البلياردو. ينظر للجسم بناءً على ذلك بحسب ميكانيكا نيوتن بأنّه كيانٌ واضحٌ وحتميّ التصرّف.

دفعت هذه الحتميّة الميكانيكيّة في القرن الثامن عشر بالعالم الفرنسي الكبير لابلاس بأن يقول إنّه إذا عرف كائنٌ ما مكان وسرعة كلّ جسمٍ في الكون بدقةٍ كبيرةٍ جدًا في لحظةٍ معيّنة، استطاع هذا الكائن بأن يتنبأ وضع الكون وكلّ ما فيه في أيّ لحظةٍ من الزمن في المستقبل (والماضي).

أطلق على مثل هذا الكائن اسم شيطان لابلاس (Laplace’s demon)، إنه هذا الجانب من ميكانيكا نيوتن الذي أثار حفيظة عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين تساءلوا: إذا كان كلّ شيءٍ محدّدًا بحسب قوانين الطبيعة الفيزيائيّة، فمن أين تأتي إذا الإرادة الحرّة؟ هل هذا يعني بأن الإنسان يعمل كالسّاعة التي حُدّد مصيرها سلفًا؟ (سأعود لهذا باقتضاب لاحقًا).

تعدّ الموجة في المقابل، اضطرابٌ يحمل طاقةً يتحرك في خلال وسطٍ مادي (كأمواج الصّوت) أو في الفراغ (كالأمواج الكهرومغناطيسيّة).

إنّ انتقال الموجة من مكانٍ إلى آخر هو انتقالٌ لا يحمل معه مادةً بل هو مجرد انتقال الاضطراب من مكانٍ إلى آخر. خذ حركة وتر العود مثلًا، فهي حركةٌ موجيةٌ تحدث نتيجةً للاضطراب الذي تحدثهُ ريشة العازف فيه، وعندما ينتقل هذا الاضطراب من مكانٍ لآخر على طول الوتر، يبقى الوتر مكانه.

للأمواج عادةٌ صفةٌ دورية، بحيث أنها تكرّر نفسها، وما يميّزها هو طول الموجة و ذبذبتها (عدد الأمواج التّي تمرّ في كلّ ثانيةٍ) اللتّان معًا تحدّدان سرعة انتشار الموجة.

إنّ تاريخ نظريّة الأمواج طويلٌ ومثيرٌ للاهتمام لا يسعني الحديث عنه هنا لضيق المجال، لكنّي أودّ الإشارة هنا إلى حقيقتين تتعلّقان بالضوء. لم يكن هناك اتفاقٌ حتّى بداية القرن التاسع عشر على ما إذا كان الضوء أمواجاً أم جسيمات، حتى أتى توماس يانغ (Thomas Young) وعرض في عام 1804 تجربة تداخل الضوء التي سأذكرها لاحقًا والتي أثبت من خلالها بأنّ الضوء موجة.

كان هناك اعتقادٌ راسخٌ، حتى بداية القرن العشرين، بأنّ الأمواج بحاجةٍ إلى وسطٍ معيّن حتى تنتشر من خلاله، كأمواج الماء والصّوت، لكن إذا كان الضوء موجةٌ، فما هو الوسط الذّي ينتشر من خلاله؟

اعتقد أغلب العلماء بأنّ هناك وسطًا غير مرئي سمّوه الأثير (نسبةً لعنصر فيزياء أرسطو الخامس)، والضوء هو مجرد اضطرابٍ في هذا الوسط. في الحقيقة، نحن نعرف منذ بداية القرن العشرين أنّه ليس هناك وسطًا كهذا وأنّ الضوء يستطيع الانتشار في الفراغ، لكن هذا جزءٌ من قصّةٍ أخرى سأتحدث عنها عندما أغطي تاريخ النظرية النسبيّة الخاصّة وأفكارها.

لنعد إلى موضوعنا. تختلف صفات الأمواج إذًا عن صفات الأجسام بشكلٍ جوهري. تصف الصورة المرفقة ما يسمّى بالموجة المستوية، وهي موجةٌ يميّزها وجود جبهة مستوية وعددٌ لا نهائي من القمّم والوديان.

إذًا، وبعكس الأجسام، نحن لا نستطيع أن نحدّد بدّقةٍ مكان الموجة المستويّة فهي تمتدّ على مسافاتٍ كبيرةٍ. فمثلًا، يمتدّ موقع الموجة التّي تصلنا من الشّمس من هنا حتى الشّمس ويستمر في الانتشار، وما يصل عيوننا هو جبهات موجة الضوء التي تؤثر على شبكيّة العين وتحفّز عصب النّظر.

تختلف القوانين التّي تحكم حركة الأمواج عن قوانين نيوتن (وإن كان بعضها مشتقًا من الميكانيكا الكلاسيكيّة)، وتعرف باسم معادلات الأمواج.

أذكر هنا، ببعضٍ من التّفصيل، ثلاثُ مميّزاتٍ للأمواج والتي سوف نحتاجها لاحقًا:

1- الانعكاس: وهي ظاهرةٌ تحدثُ مثلًا عندما تواجه الموجة عائقًا صلبًا كما يحدث في المرآة، أو حين تقع أشعة الشّمس على الأرض وتنعكس في كلّ الاتجاهات لتنير النّهار، وغيرها ممّا لا يحصى من ظواهر.

لكن الانعكاس يحدث في حالاتٍ عامّةٍ أكثر عندما تنتقل الموجة من وسطٍ إلى آخر (ليس بالضرورة عائق) كما يحدث عندما تنتقل أشعة الشّمس من الهواء إلى الماء، إذ عادةً ينتقل جزءٌ من الأشعة إلى داخل الماء و ينعكس جزءٌ آخر منها (في زوايا معيّنة تنعكس كل أشعة الشّمس).

ما يميّز الانعكاس أن الزاوية التي تنعكس بها جبهة الموجة تساوي الزاوية التّي تسقط بها على السطح الصلب أو الذّي يفصل بين الوسطين.

2- الحيود diffraction)). وهي ما يحدث للموجة عندما يواجهها عائقٌ معيّنٌ ذو بعدٍ محدود. تنعطف جبهة الموجة في مثل هذه الحالة فتتقدّم بشكلٍ منحنٍ (دائري) لتصل إلى خلف العائق. يبيّن الشّق اليميني من الرسم المرفق أعلاه موجةً مستويةً تأتي من يسار الرسمة، كما يبيّن السهم الأزرق، بحيث تواجه سدًا به شق ضيق.

يمرّ القليل من هذا الثقب الضيّق ويتصرّف كموجةٍ دائريةٍ مصدرها هذا الشّق. هذه هي ظاهرة الحيود. نرى هنا فرقًا أساسيًا بين الموجةِ والجسم، فالجسم لا يتصرف بهذا الشكل أبدًا! أو هذا على الأقلّ ما تعتقده الفيزياء الكلاسيكيّة.

اقتطعت الشّق اليساريّ من الصّورة المرفقة أعلاه من غوغل الكرة الأرضية (Google Earth) وهي صورةٌ لكاسحة أمواجٍ في ميناء حيفا. تظهر أمواج البحر كموجةٍ مستويةٍ، جبهتها واتجاهها تظهر في يسار الصورة ( يُشار إلى إحداها باللّون الأصفر).

تتغيّر هذه الموجة عندما تواجه العائق الحجري إلى جبهةٍ دائريةٍ كما يظهر في يمين الصورة والتّي يبيّن أحدها الخطّ الأحمر، كما أننا نرى جزءًا من الموجة يسير خلف الحاجز.

 

3- التّداخل (interference). وهي ما يحدث عندما تتقابل موجتان من نفس النوع معًا، فبعكس الأجسام التّي عادةً لا تخترق بعضها بعضًا، تستطيع الأمواج أن تتداخل مع بعضها بحيث تبني الموجة أختها حيث تتوافقان وتهدمها حيث تتعاكسان.

تبيّن الصورة المرفقة ما يعرف بتجربة يانغ (نسبة لِ Thomas Young) والذّي بيّن من خلالها أنّ الضوء عبارة عن موجة. نرى في الرسم موجةً مستويةً تتقدّم من اليسار إلى اليمين تواجه في مسارها شقّان صغيران.

يؤدي حيود الموجة بواسطة كلٍّ منهما إلى نشوء موجتان دائريتان مصدر كلّ منهما الشّقان الضيّقان الموجودان في الحاجز.

تتداخل هاتان الموجتان حين تعبران خلال بعضهما البعض بحيث تبني وتهدم أحدها الأخرى بحسب الموقع كما تبيّن المناطق البيضاء والسوداء في الرسم، أيّ أنّ التداخل عمليًا هو جمع موجتين مصدرهما كلٌّ من الشقين في تجربة يانغ.

تسمى هذه الظاهرة أيضا بمبدأ التراكب (superposition principle)، وهي صفة خاصّة بالأمواج فقط بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة، لأنّ الأجسام لا يمكن أن تتصرّف هكذا!

إذًا، الجسم والموجة بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة هما كيانان مختلفان يتصرّفان جوهريًا بشكلٍ مغاير. بقي هذا الفصل الواضح بينهما جليًا حتى بداية القرن العشرين الذّي أتى بمعطياتٍ جديدةٍ قلبت كل المعايير السابقة.

في الحقيقة، كانت الشّروخ قد بدأت تبدو واضحةً في مبنى الفيزياء الكلاسيكية الكبير، حتى في القرن التاسع عشر، فمثلًا، لم تتماهى المعادلات التّي تحكم الكهرومغناطيسيّة (معادلات ماكسويل) تمامًا مع قوانين الميكانيكا، ممّا أدّى لاحقًا إلى اكتشاف النظريّة النسبيّة الخاصّة لأينشتاين. كما وقفت الفيزياء الكلاسيكيّة عاجزة تمامًا عن تفسير بعض الظواهر التي رأت النور بخصوص دراسة الذرّة وأشعتها، أيّ أنّ رياح التّغيير بدت جليةً للكثيرين مع مطلع القرن العشرين، ولكن لم يتوقع أحد حجم هذا التّغيير المذهل والذّي كانت فكرة الفصل ما بين الموجة والجسم المادي أولى ضحاياه.

لكن لربما كان اختراع أديسون البسيط والهام جدًا وهو المصباحُ الكهربائي أهم العوامل التي أدّت إلى بداية فيزياء الكمّ وثورتها.

بدايةُ ثورةٍ والسببُ… مصباحٌ

اخترع توماس أديسون في نهاية القرن التاسع عشر المصباح الكهربائي الذي أحدث تغييراً جذريّاً في حياة البشر.

أدّى هذا الاختراع إلى سباقٍ وتنافسٍ كبيرٍ بين شركاتٍ عدّةٍ يهدف إلى إنتاج مصباحٍ كهربائي يعمّر طويلاً وبأقلّ مصروفٍ للطاقة.

استعملت عدّة شركاتٍ في سبيل ذلك خدمات الفيزيائيّ النظريّ الألماني ماكس بلانك (Max Planck) للبحث في إمكانية تطوير مصباحٍ من هذا النوع. ابتدأ بلانك في دراسة صفات سلك التوهج في هذه المصابيح محاولًا فهم طبيعة طيف الضوء الذي يشّع منها. يسمى مثل هذا الطيف في الفيزياء طيف الجسم الأسود (blackbody spectrum).

يجدر التنويه إلى أنّ تسمية الجسم الأسود يجب أن لا تؤخذ حرفيًا، لأنّ ما يقصد بها هو أنّ الجسم في حالة اتزان حراري بين ما يصدره من أشعةٍ وما يمتصّهُ، والأمر الذي فاجئ الفيزيائيين هو أنّ طيف الجسم الأسود يعتمد فقط على درجة حرارة ذلك الجسم، فمثلًا، يكون لون الجسم الأسود أحمر عند حرارة 1000 درجةٍ مئويّةٍ (مثل الحديد المنصهر)، ويكون أبيض مائلٌ إلى الصفرة على درجة حرارة 6000 مئوية (مثل حرارة سطح الشّمس) والخ.

تنبأت النظريّة الكلاسيكيّة للضوء أن شدّة الضّوء في طيف الجسم الأسود تزداد كلما قصر طول الموجة (كما يبيّن الخطّ الأزرق في الرسم).

إذا قمنا بحساب كمية الطاقة الكلية التي تصدر من جسم يتبع الخطّ الأزرق سنتوصّل إلى أنّ مثل هذا الجسم يصدر ما لانهاية من الطّاقة، وهو أمرٌ غير معقول. تُعرفُ هذه المشكلة باسم الكارثة الفوق بنفسجيّة (ultraviolet catastrophe).

بالمقابل، ما يجدهُ القياس في المختبر هو أنه ابتداءً من طول موجةٍ معيّنة تبدأ كثافة الضّوء بالنزول بشكلٍ حادّ كلما قصر طول الموجة (كما يبيّن الخطّ الأحمر في الرسم).

كانت هناك عدّة محاولاتٍ لتفسير قياس طيف أشعة الجسم الأسود (الدالة المبيّنة بواسطة الخط الأحمر)، وباستخدام فرضياتٍ معيّنة استطاع البعض تفسير تصرف هذه الأشعة للأمواج الطويلة، وبحسب فرضياتٍ أخرى مختلفة تماماً يمكن تفسير تصرّف الطّيف في حالة الأمواج القصيرة، لكن لم يستطع أحدٌ إعطاء دالة واحدة تناسب كل أطوال الأمواج، حتى جاء ماكس بلانك!

 

يعدّ إنجاز بلانك الأول إيجاده، بمساعدة زيادة معامل ثابت (يسمى ثابت بلانك، h)، دالة واحدة تلائم قياسات طيف الجسم الأسود في عام 1900.

في أغلب الحالات، عندما يجد فيزيائيٌ دالةً رياضيّةً تلائم المعطيات، لا يكون لهذه الدالة معنًى عميق، لكن دالة بلانك، كما أصبحت تُعرف، لاءمت المعطيات التجريبيّة بدقةٍ غير مسبوقةٍ واستُعملت للتنبؤ بالنتائج المخبريّة بنجاحٍ هائلٍ ممّا أقنع بلانك بأنّ الدالة التي اكتشفها تحمل في طيّاتها معنًى عميق حول طبيعة الضّوء، وهذا هو إنجازه الكبير الثاني.

فرض بلانك فرضيتين جوهرتين ليفهم من أين أتت هذه الدالة، الأولى بأنه يمكن التعامل مع أشعة الجسم الأسود بواسطة نظرية الفيزياء الإحصائية التي تطبّق على الغازات، أيّ على مجموعةٍ من الجسيمات المادية، وليس على الأمواج، والثانية هي أنّه إذا أخذنا الأشعة ذات طول موجة (ذبذبة، ) معيّنة من طيف الجسم الأسود تكون مكونةً من كمّات (quanta) من الطاقة قدر كل منها هو، والتي أصبحت تعرف لاحقًا بالفوتونات.

عندها استطاع بلانك اشتقاق دالّته بشكلٍ طبيعي من الأسّس الفيزيائيّة المعروفة. لكن مهلًا! ألم تتعامل هاتين الفرضيتين مع الضوء كمجموعة أجسام وليس مجموعة أمواج؟

هذه كانت الفكرة الثورية التي أتى بها بلانك، لربما أكثر فيزيائي محافظ من بين أترابه. كانت هذه هي الطلقة الأولى لانطلاقة ثورة فيزياء الكمّ الكبيرة، وكل ذلك بفضل مصباح!

لكن، وكما نعلم، لا يتبنى الناس الأفكار الجديدة بسرعة، بل تُستقبل عادة بالشّك وحتى الاستخفاف.

العلماء ليسوا مختلفين، بل في كثير من الأحيان هم محافظون أكثر من باقي الناس وذلك لأن آرائهم وأفكارهم تكون مبنيةً على بياناتٍ تجريبيةٍ ونظرياتٍ أثبتت فعاليّتها على أرض الواقع.

هذا بالضّبط ما واجهه ماكس بلانك، الذي أُصيب بإحباطٍ شديدٍ نتيجة رفض الغالبيّة السّاحقة من أقرانه قبول نظريته.

بالمقابل، الذّين قبلوا نظريته هم علماءٌ من الجيل الجديد من الفيزيائيين مثل أينشتاين وبوهر وغيرهم. لهذا السبب قال بلانك جملته الشهيرة: “الحقيقة العلميّة لا تنتصر بإقناع خصومها وجعلهم يرون النور، بل لأنّ خصومها يموتون في نهاية المطاف وينمو جيلٌ جديدٌ معتادٌ عليها”.

توالت عدة اكتشافات أخرى بعد هذه البداية، دلّت جميعها على أنّ الضّوء يتصرف أيضًا كجسم، وليس فقط كموجة.

منها ظاهرة المواد التّي تحرّر إلكترونات حين يقع عليها ضوءٌ ذو طول موجةٍ معينةٍ، والمعروفة باسم التّأثير الكهربائي الضّوئي، والتّي فسرّها أينشتاين في مقال عام 1905 بواسطة كمّات الطاقة الضوئية، الفوتونات، بشكلٍ مشابهٍ لمفهوم بلانك إحدى هذه الاكتشافات.



من الجدير بالذكر أنّ أينشتاين حصل على جائزة نوبل للفيزياء على هذا المقال، وليس على انجازاته العظيمة الأخرى. ومن الظواهر الأخرى التّي أيضًا احتاجت مفهوم الفوتون، هي ظاهرة تبعثر الضوء على إلكترونات حرة، والمعروفة باسم ظاهرة كومبتون وغيرها من الظواهر العديدة.

تتحدى الظواهر التّي تمّ ذكرها الطبيعة الموجية للضوء، وتدّل أنّه يتصرّف أحيانًا كجسمٍ مادي. ولكن ماذا عن الحالة العكسيّة؟ هل يمكن لأجسام مادية أن تتصرّف كأمواج؟

الإجابة هنا أيضًا كانت مفاجئة، فهناك العديد من الظواهر التي ابتدأ العلماء باكتشافها في بداية القرن العشرين والتّي تَحْدُث على أبعادٍ ذرّيةٍ صغيرةٍ جدًا، تتصرّف بها أجسامٌ مثل الإلكترونات بشكلٍ واضح كأنها أمواج، مثلًا، ظاهرة الضّوء الذي يشعّه عنصر الهيدروجين والذّي يحمل أطوال أمواجٍ محدّدةٍ جدًا، ولا يشعّ أو يُبتلع في أطوال أمواجٍ أخرى.

تبيّن الصّورة المرفقة أدناه طيف ذرة الهيدروجين في مجال الضوء المرئي. يرينا طيف الابتلاع أطوال الأمواج التي يبتلعها الهيدروجين إذا ما مرّ ضوء من خلاله، بينما يبيّن طيف الإشعاع الأمواج التي يُشعّ بها الهيدروجين.

إنّ أطوال أمواج الطيف محددة جدًا في الحالتين ومعطاة في الرسم. استطاع العالم الدنماركي نيلس بوهر (Niels Bohr) تفسير خطوط الطيف هذه عندما افترض بأن الإلكترون يتصرف كموجة!

كما تم أيضا القيام بتجربة يانغ المذكورة أعلاه ولكن بدلًا من استعمال موجةٍ مستويةٍ أطلقوا حزمة إلكترونات على شقين ليروا بوضوح أن نمط التداخل يبدو تمامًا كما لو أن الالكترونات أمواج.

إذا، أصبح واضحًا تمامًا خلال العقدين الأولين من القرن العشرين بأنّ الفصل الكلاسيكي بين الجسم والموجة لا ينطبق على عالم الذرّة وفيزياء الأبعاد الصغيرة، كما وأصبح واضحًا أنّ هناك حاجة لنظريّة فيزيائيّة جديدة تفسر كل هذه الظواهر الغريبة من خلال إطارٍ منظمٍ وموحد.

 

الجزء الثاني: نظرية الكم وواقعها


نظريّة الكمّ ومبدأ اللايقين

في الربع الأوّل من القرن العشرين، أيّ خلال ال25 عامًا التّي مرّت على اكتشاف بلانك، تحولت قطرات الأدلة التي تتحدى الفيزياء الكلاسيكية إلى سيلٍ عرمرمٍ. قوّض صرح البناء العظيم الذي بناه نيوتن وأتباعه، والذي كان القلعة الشامخة في فهمنا للطبيعة.


بالرغم من النجاح الذّي حققه بلانك، أينشتاين، بوهر وغيرهم في تفسير بعض النتائج، لم يستطع أحد أن يعطي نظريةً واحدةً توحد تفسير كل النتائج بشكل منهجي ومتناسق. دخلت الفيزياء، كمجال أبحاثٍ، في أزمةٍ حقيقيةٍ لم يكن واضحًا خلالها ما إذا كان سيظهر مبنًى فيزيائي جديد يحلّ محل الفيزياء الكلاسيكية أم أننا سنبقى مع هذا الدمار، ولكن فجأة ظهرت نظريتان تحملان بشرى الانقلاب المنشود. النظرية الأولى، أتى بها شاب في ربيعه الرابع والعشرين، فرنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg) من جامعة غوتنغن في ألمانيا في عام 1925، وتعتمد على صفات مبنًى رياضي معيّن يسمى المصفوفة (Matrix)، لهذا سميت نظريته "ميكانيكا المصفوفة" (Matrix Mechanics). أما النظرية الثانية فقد ظهرت في عام 1926 وأتى بها الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر (Erwin Schrödinger) وتعتمد على معادلة تعامل الأجسام كأمواج، عرفت هذه النظرية باسم "ميكانيكا الأمواج" (Wave Mechanics). ظن الجميع في البداية بأن هاتان النظريتان تختلفان تمامًا عن بعضهما البعض، ولكن اتضح بعد حين أنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، بحيث أنهما تصفان نفس النظرية. تعرف هذه النظرية اليوم باسم نظرية الكم (أو ميكانيكا الكم) التي اتضح أنها، إلى جانب نظرية أينشتاين النسبية، العمود الفقري للفيزياء الحديثة.


المعادلة التي أتى بها شرودنغر، ليست معادلة موجة كلاسيكية بل هي في الحقيقة مزيجٌ بين معادلة الأجسام ومفاهيم من الأمواج. وهي مبنية على قانون حفظ طاقة الجسم الكلاسيكية التي تحكم تصرف دالةٍ معينةٍ، تسمى دالة الموجة ويرمز لها عادة بالحرف اليوناني، ψ! ولكن ماذا تعني هذه الدالة، وأي موجة تصف، وما علاقتها بما نقيسه في الطبيعة؟


أتى فهم معنى دالة الموجة في نهاية عام 1926 على يد ماكس بورن (Max Born) الألماني الذي بيّن أن تربيع القيمة المطلقة لدالة الموجة، |ψ|^2، هي ما يسمى كثافة الاحتمالات، أي أنها تصف إحتمال وجود هذا الجسم في مكانٍ معيّن. لكن ألا يعني هذا بأننا لا نعرف مكان الجسم المعين بشكلٍ قاطعٍ في أيّة لحظةٍ وبأنّ الجسم الذي تصفه هذه الدالة هو في الحقيقة غير موجود في مكان محدّد بل هناك احتمالٌ معينٌ بأنّه موجودٌ في كلّ مكانٍ تسمح به المجموعة الفيزيائيّة في نفس الوقت! يضرب هذا التفسير الاحتمالي والإحصائي لنظرية الكم حتمية موقع وسرعة جسم معين بعرض الحائط. فبعكس حتمية قوانين الطبيعة التي تصف موقع وسرعة الأجسام والتي تعود عليها الفيزيائيون منذ عهد نيوتن (تتواجد هذه الحتمية في كون بطليموس أيضًا)، استبدلتها ميكانيكا الكم بوصف احصائي، (لكنه وصف حتمي لتطور دالة الموجة التي تصف احتمال أن يكون لجسم موقع وسرعة معينة). إذا قبلنا بهذا التفسير فهذا يعني موت شيطان باسكال الذي ذكرناه سابقا ونهاية فكرة الكون كآلة تحدد به كل شيء منذ الأزل وحتى الأبد؟


وقع التخلّص من حتميّة قوانين الطبيعة كالصاعقة على كثير من العلماء وأولهم أينشتاين الذي رفض قبول هذا التفسير معتقدًا بوجود حقيقة أعمق من نظرية الكم بها، ما اسماه، متغيرات مستترة (Hidden Variables) نجهلها، وما التفسير الإحصائي لدالة الموجة إلا انعكاسٌ لهذا الجهل، أيّ أنّ نظرية الكم هي ليست الحقيقة الكاملة! وفي هذا السياق جاءت جملته الشهيرة التي ظهرت في رسالة كتبها لماكس بورن قال فيها "أنا، على أي حال، مقتنع تماما بأن [الله] لا يلعب النرد". سأعود لهذا النقاش بتوسّعٍ لاحقًا!


دعونا قبل الاستمرار في قصتنا نتوقف برهة لنتمعن في معنى أن يكون قانون طبيعة أساسي إحصائي بجوهره. نتوقع من قانونٍ طبيعي أن يعطينا نتائج حتميةً نعتمد عليها ونثق بها وهي صفةٌ أساسيةٌ في القوانين الكلاسيكيّة، فنحن نعتمد عليها عندما نسافر بالطائرة وعندما نعبر الشارع وعندما نركب السيارة أو نشعل الكهرباء والخ من نشاطاتنا اليومية العادية أو العلمية والتكنولوجية. في المقابل، يعني قانونٌ ذو طبيعةٍ احتماليةٍ بطبيعة الحال أنّ هناك عدم يقينٍ في المقدار الذّي نريد أن نعرفه، فكيف لنا مثلًا أن نسافر بالطائرة عندما نعلم بأننا لسنا على يقينٍ تمامًا إذا ما كانت ستطير أصلًا، حتى إذا كانت الطائرة في حالة تقنيةٍ ممتازةٍ؟ لأنّ ما لا نستطيع الاعتماد عليه هنا هي قوانين الطبيعة بذاتها! لتحديد هذه النقطة أكثر أعطي مثالًا يحدث في الطبيعة عن الجسيم الأوّلي المسمى بالميؤون (muon) وهو جسم غير مركب من أيّ جسمٍ آخر ويشبه الإلكترون في صفاته، لكننا نعرف أن الميؤون هو جسيمٌ غير ثابتٍ وينحلّ أو يضمحل (decay) إلى أجسامٍ أخرى أقلّ كتلة، خلال زمن قصيرٍ جدًا (جزئين من مليون من الثانية بالمعدل). تخيل أنّ هناك ميؤونين متطابقين تمامًا يعيشان تحت نفس الظروف الفيزيائية بالضبط. بحسب الفيزياء الكلاسيكية، الحتمية، يتصرف هذان الجسمان بشكل مطابقٍ تمامًا، ولكن ما يحدث في الواقع هو أنه بعد زمنٍ معيّن ينحلّ أحدهما قبل الآخر بحيث يبقى الثاني كاملًا كما هو لفترة أطول، بالرغم من أنهما متطابقان تمامًا! ليس لدينا أيّ طريقة نحدّد بها متى بالضبط سيحدث الانحلال وأي منهما سوف ينحلّ أولًا. هذه هي الطبيعة الإحصائية الغريبة لقوانين ميكانيكا الكم!


لكن كيف لنا أن نسمي معادلات ميكانيكا الكم "قوانين" إذا كانت لا تتنبأ بأي شيء حتمي، فهي لا تستطيع أن تبيّن لنا مثلًا أين يقع مدار الإلكترون في الذرة بالضبط، بل من الممكن أن يكون في أيّ مكان تبعاً لها. هذا صحيح، ولكنها قوانين، بمفهوم أنها تعطينا احتمال وجود الإلكترون في مكانٍ ما بشكلٍ حتمي ودقيقٍ جدًا، وهذه معلوماتٌ مهمّةٌ جدًا. هناك فرعٌ كاملٌ في الحقيقة في الميكانيكا الكلاسيكيّة يعطينا قوانين إحصائية عن طبيعة مجموعات معيّنة، يسمى "الميكانيكا الإحصائية". طُوّر هذا الفرع في القرن التاسع عشر ليتعامل مع التجمعات الكبيرة من الأجسام الصغيرة ليصف خواصها المتوسطة، مثل الحرارة والضغط. بالرغم من أنّ القوانين الكلاسيكية التّي تحكم كل جسيم صغير في هذه المجموعات الضخمة هي قوانينٌ حتميةٌ، إلا أن حلّ معادلات الأجسام جميعها في آنٍ واحدٍ هو مهمّةٌ مستحيلةٌ حتى لأكبر حاسوب لدينا. ففي متر مكعب من الهواء مثلا هناك حوالي 1025 جسيم (10000000000000000000000000 جسيم)، لهذا، من الأسهل أن نتعامل مع مجموعةٍ كهذه بشكلٍ إحصائي لنحسب خواصها العامة. هذا الفرع من الفيزياء الكلاسيكيّة هو فرعٌ هامٌ جدًا ودقيقٌ جدًا، ولكن الفرق بين الميكانيكا الإحصائية وميكانيكا الكم هي أنّ الأولى تعتمد قوانين الإحصاء لتتغلب على عدم قدرتها على حل معادلات كل جسيم بانفراد، أي تستعمله لتخبئ المتغيرات الحقيقية للمجموعة وتستبدله بقوانين ذات طابع إحصائي (هذا هو مصدر مصطلح المتغيرات المستترة الذي استعمله اينشتاين)، أما الثانية، أي ميكانيكا الكم، فطابعها الإحصائي هو أساسي حتى عندما تتعامل مع جسيمٍ واحدٍ فقط.


إذاً، هناك دائمًا خطأ معيّن أو بالأحرى لا يقين معين نتيجة لهذه الطبيعة الإحصائية لقوانين ميكانيكا الكم عند حساب موقع أيّ جسم، مصدرهُ عدم حتمية القوانين وليس خطأ القياس. يشبه هذا مراقبة شخصٍ ما وتحديد أنه داخل بيته ولكن من غير أن نحدّد في أيّ مكانٍ في البيت بالضّبط لأننا لا نستطيع مبدئيًا أن نعرف في أيّ مكانٍ في الداخل هو موجود، ولكن ماذا لو راقبنا هذا الرجل بشكلٍ مكثفٍ أكثر وزرعنا كاميراتٍ ومجسّات في داخل البيت، عندها بالطبع نستطيع أن نحدّد مكانه بدقةٍ أكبر، لكننا ندفع عندها ثمنًا غاليًا جدًا لمعرفتنا الدقيقة، كما تقول لنا نتيجة المبدأ الشهير المعروف بـ "مبدأ اللايقين" ( uncertainty principle) والذّي ينتج بشكلٍ طبيعي من نظرية الكمّ ! نشر هايزنبرغ في عام 1927 مقالًا بيّن فيه بأنّ هنالك في الطبيعة أزواجٌ من المتغيرات المرتبطّة ببعضها ارتباطًا عضويًا، مثل المكان والسرعة (الأصحّ أن نقول: كميّة الحركة)، اللذين لا نستطيع أن نعرف أحدها بدقة متناهية من غير أن نخسر معرفتنا عن المتغير الآخر بشكلٍ تام. أيّ في مثال الرجل داخل بيته، قد نستطيع أن نحدّد مكانه بدقّة متناهية ولكنّا عندها لا نستطيع، مبدئيًا، أن نعرف سرعته أبدًا، أو كما نصّ هايزنبرغ هذا: "كلما عرفنا مكان جسم بشكلٍ أدق، كلما نعرف كمية حركته بشكلٍ أقلّ دقة"، والعكس بالعكس. كذلك الأمر بالنسبة للزمن والطاقة وأزواجٍ أخرى من المتغيّرات لنفس الجسم. أعطى هايزنبرغ في نفس المقال معادلةً تعطي بدقةٍ حدود اللايقين، بحيث أن حاصل ضرب اللايقين بالمكان في اللايقين بكمية الحركة (الكتلة× السرعة) لنفس الجسم هو أكبر من عددٍ معيّن صغير جدًا، مرتبط بثابت بلانك الذي ذكرناه سابقًا (بصورةٍ رياضيةٍ العلاقة هي Δx⋅Δp≥h/4π، بحيث أن الحد Δxهو اللايقين في المكان، Δp هو اللايقين في كمية الحركة، hهو ثابت بلانك وπ≃3.14 هو النسبة التقريبية). مما يجدر ذكره بأنّ السبب الأساسي الذي يجعلنا لا نرى هذه العلاقة في حياتنا اليومية هو أن ثابت بلانك هو عدد صغير جدًا (h=6.626×10-34 m2kg/s)، لهذا نرى تأثير نظرية الكم فقط على أبعادٍ صغيرةٍ جدًا. تعدّ هذه العلاقة في الحقيقة الفرق الأساسي بين ميكانيكا الكمّ والميكانيكا الكلاسيكية، فلو كانت قيمة ثابت بلانك صفرا لما كان هناك أيُّ فرقٍ بينهما.

 

خيالٌ أم حقيقةٌ

لنستمر في عرض صفات نظرية الكم الأساسية. لقد رأينا مثلًا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن مكان الإلكترون أو البروتون وغيرها من الجسيمات، فقد تكون موجودةً مبدئيًا في كلّ مكانٍ، بالضبط كما لا نستطيع أن نعرف مكان الموجة المستوية الممتدة المبيّنة في الصورة الأولى أعلاه فهي لا تحتل نقطةً معينةً في الفراغ الهندسي. يتناقض هذا مع مفهوم الجسم كما ندركه كلاسيكيًا ونستدلّ عليه من تجاربنا اليوميّة. فبحسب التفسير الرائج لفيزياء الكم (أنظر لاحقًا) الجسم هو مجرد غمامةٍ من الاحتمالات غير المحدّدةِ في نقطةٍ مكانيةٍ واحدة تظهر في مكانٍ معيّن فقط عندما نحاول رصدها.


الظاهرة التّالية المذهلة هي ظاهرة النفق الكمي (quantum tunnelling). بالرغم أنّ أغلب القرّاء، على الأرجح، لم يسمعوا عن هذه الظاهرة إلا أنها مهمةٌ جدًا في حياتنا نتيجةً لدورها في الترانزيستورات والديودات اللتان في قلب الأجهزة الإلكترونية الحديثة. لوصف هذه الظاهرة سنبدأ بالمقابل الكلاسيكي لها. تخيّل طفلًا يلعب بكرة القدم ويركلها باتجاه حائط، حسب الميكانيكا الكلاسيكية تصطدم الكرة بالحائط وتعود في اتجاه الطفل، أيّ أن الكرة تنعكس دائمًا. الآن، بدلًا من الكرة، لنتخيّل إلكترون يسير نحو حاجزٍ مثل الحائط الذي واجهته الكرة (يسمى هذا عادةً بالحاجز الجهدي potential barrier). نتوقع أن يصطدم الإلكترون بالحاجز وينعكس، كما يحدث للكرة، لكن ما يحدث في الحقيقة هو أكثر تعقيدًا. ينعكس الإلكترون في الغالبية العظمى من الحالات ولكن أحيانًا يخترق الحائط ويظهر في الجانب الآخر منه، كما لو كان مسحورًا! تسمى هذه الظاهرة "النفق الكمي"، التي بالرغم من غرابتها من الممكن فهمها إذا ما تعاملنا مع الإلكترون كموجة، فهناك جزءٌ من الموجة ينعكس ولكن هناك احتمالٌ بأن جزءاً منها يخترق الحاجز (أنظر صورة حاجز الأمواج في حيفا المبيّنة أعلاه. نلاحظ أن جزءاً من الموجة يظهر خلف الجدار).


هذا ما يحدث مثلًا عندما تشّع بعض أنوية الذرّة أشعة ألفا (alpha radiation) وغيرها من الإشعاعات النووية، فهي ببساطة جسيمات تخترق حاجز النواة الجهدي وتتحرّر كما تخترق أمواج الصوت حيطان غرفةٍ موصدة الإحكام. تبيّن الصورة المرفقة ظاهرة النفق الكمّي، دالة الموجة لجسمٍ معين ومبنية باللون الأزرق، تظهر الجسم محصورًا في يسار الصورة بواسطة الحاجز الجهدي المبيّن باللون الأحمر ولكن جزء من دالة موجة الجسم يستطيع أن يخترق هذا "الحائط" ليظهر في الطرف الآخر من الحاجز (يمين الصورة) كأن شخصا ما يسير عبر الحيطان ويخترقها كما لو كان شبحًا.


كما ذكرنا، من الممكن فهم هذه الظاهرة كما في حالة الأمواج بحيث أن جزءاً من الموجة "يدور" حول الحاجز ويسير خلفه كما في صورة كاسحة الأمواج في ميناء حيفا، ولكن من الممكن أيضًا فهمها بواسطة مبدأ اللايقين بين الطاقة والزمن الذي ذكرناه سابقًا، والذّي يسمح بأن يأخذ الجسم طاقة كبيرة جدًا لزمنٍ صغيرٍ جدًا (تذكر بأنّ مبدأ اللايقين ينصّ بأن محصل ضرب اللايقين في الزمن[Δt] باللايقين في الطاقة[ΔE] هي أكبر من رقمٍ صغيرٍ جدًا [Δt⋅ΔE≥h/4π]). قد تزيد طاقة الجسيم داخل الحاجز لفترةٍ قصيرة جدًا بحسب هذا المبدأ، بحيث يستطيع القفز فوق الحاجز والعبور للجانب الآخر.

 

لنعد الآن لتفحص ماذا يحدث عندما تقوم بتجربة شقي يانغ التي ذكرت أعلاه عندما نقوم بها بواسطة جسيمات، مثلًا إلكترونات، إذا فكرنا في هذه التجربة كلاسيكيًا (أيّ كما تمليه علينا تجربتنا اليومية) نتوقع أن يمرّ كل من الإلكترونات التي نطلقها أمّا من الشّق الأول أو الثاني لهذا نتوقع أن تحتشد الإلكترونات خلف الشقين في مجموعتين مختلفتين، تضم الأولى الإلكترونات التي مرّت من الشق الأول و تضم الثانية الإلكترونات التي مرت من الشق الثاني. لكن هذا ليس ما يحدث، إذ أنّ الصورة التي سنراها على الشاشة التي تقع خلف الشقين عندما نقوم بهذه التجربة، هي صورة نمط واضح يتوافق تمامًا في تجربة الأمواج، أي نجد نمط من التداخل (أنظر الصورة).


لكن هل هذا النمط هو نتيجة لتفاعل مجموعة الإلكترونات الكبيرة التي يطلقها مدفع الإلكترونات أم أنّ كلّ إلكترون على حدة يتصرف كموجة؟ نستطيع الإجابة على هذا السؤال بواسطة إعادة التجربة ولكن باستعمال مدفع الكترونات يطلق إلكتروناً واحداً كل مرة. ما نراه على الشاشة بعد أن ننتظر حتى يصبح عدد الإلكترونات التي انطلقت من المدفع كبير، هو أننا ما زلنا نحصل على نمط التداخل. أي أن الإلكترون الواحد يمرّ من الشقين معًا! أي أن من الإمكانيات المتاحة للإلكترون، أي أن يمر من الثقب الأول أو الثاني، يختار الإلكترون كلاهما فهو يمر معًا من الشقين! هذا يذكرنا ب "مبدأ التراكب" الذي ذكرته سابقًا وهو مبدأ أساسي في فيزياء الكم: إذا كان هناك العديد من الإمكانيات المتاحة أمام مجموعة فيزيائية تختار هذه المجموعة، وفقًا لفيزياء الكم، جميعها في آنٍ واحدٍ.

أحقًا تصدّق بأنّ القمر يكون موجودًا فقط حين أنظر إليه؟

هناك خطوةٌ أخرى في تجربة يانغ نستطيع أن نقوم بها. لنفرض الآن بأننا وضعنا جهازًا صغيرًا بجانب أحد الشقين يفحص عدد الإلكترونات التي مرت بهذا الشق، بالطبع نتوقع بأننا إذا قمنا بالتجربة مجددًا بأن نرى نمط التداخل مرة أخرى على الشاشة، لكن هذا ليس ما يحدث! بل ما يحدث هو أن الإلكترونات تتجمع في تجمعان اثنان تمامًا كما توقعنا في الحالة الكلاسيكية، أي عندها يمر كل من الإلكترونات من شق واحد فقط. لكن مهلا، ما الذي يحدث هنا؟ كيف يغيّر الإلكترون تصرفه بمجرد أننا راقبنا من أي شقٍ يمر؟ أليس من المفروض أن عملية القياس هي عملية موضوعية نقيس بها ما يحدث في الواقع من غير أن نؤثر عليه؟


بحسب التفسير الأكثر شيوعًا لنظرية الكم والمسمى تفسير كوبنهاجن (هنالك عدد من الصيغ لهذا التفسير) − نسبة إلى عاصمة الدنمارك التي هي موطن نيلس بوهر وموقع معهده الشهير− تلك هي صفات أساسية لهذه النظرية: المجموعة التي تعيش في كل الاحتمالات الممكنة عندما لم نكن نقيسها، مثلًا عندما يمر الإلكترون من مكانين معًا في نفس الوقت، تقرر عندما نحاول قياسها بأنها تتبنى فقط إمكانيةً واحدة، هذه في الحقيقة من أغرب صفات نظرية الكم وتسمى "مشكلة القياس" (the measurement problem)، وهي تقول بأنّ عملية القياس في نظرية الكم تجبر المجموعة الفيزيائية على اختيار حالةٍ معينةٍ ومحددة، ومن دونها تعيش هذه المجموعة كل هذه الاحتمالات معًا، أي أنّ القياس يملي على الطبيعة كيف تتصرف!


قد يناقش البعض بأنّ هذا ليس بجديد فكل عملية قياس، حتى في الفيزياء الكلاسيكية تؤثر على المجموعة التي نقيسها وتحمل في طياتها خطأ معينا، عادة ما يكون صغيرًا. هذا صحيح، ولكن الفرق أنه في الفيزياء الكلاسيكية نستطيع مبدئيًا على الأقل أن نحسب كيف ستؤثر عملية القياس على المجموعة بشكل حتمي. إضافةً إلى ذلك، الفيزياء الكلاسيكيّة تجزم بأن وضع المجموعة التي نقيسها هو نفس الوضع الذي نرصده بالتجربة، أي أن القياس التجريبي يعكس الواقع الموضوعي. أمّا في فيزياء الكم، لا يمكن حساب خطأ القياس والتنبؤ به بشكل حتمي لا عمليًا ولا مبدئيًا، إضافةً إلى ذلك، فإنّ عملية القياس لا تعكس كل الواقع الموضوعي لوضع المجموعة بل تجبر الطبيعة على اختيار إحدى إمكانيات وجودها. أيّ أنها تفكك دالة الموجة إلى مركباتها (مجموعة الإمكانيات المتاحة أمام المجموعة) وتجبرها أن تختار أحداها. يعني هذا أن المراقب الذي يقيس المجموعة هو ليس مراقبًا موضوعيًا لواقعٍ موجودٍ بمعزلٍ عنه، بل هو مشاركٌ في تحديد هذا الواقع! يناقض هذا أحد الفرضيات العلميّة الأساسيّة ويلقي بظلال الشك واللايقين على طبيعة الواقع الموضوعي، إن لم يكن على وجوده جملةً وتفصيلًا.


أثار هذا التصرف المذهل والغريب الذي قبله أتباع مدرسة كوبنهاجن حفيظة عدد من العلماء الكبار وعلى رأسهم أينشتاين، الذي كان أحد "أجداد" نظرية الكم، و إرفين شرودنجر، أحد آبائها المؤسسين. لتوضيح عبثية مسألة القياس في نظرية الكم بحسب هذه المدرسة، تخيل إرفين شرودنجر تجربةً ذهنيةً (thought experiment) مشهورةً تعرف بإسم تجربة "قطة شرودنجر" (Schrödinger’s cat). والتجربة هي كما يلي: تخيل أنك وضعت قطةً في صندوق محكم ومغطى، وضعنا في الصندوق مع القطة زجاجة دقيقة من مادة السيانيد السامة، وعلبة بها مادة ذرية مشعة تطلق جسيمًا واحدًا كلّ ساعةٍ بالمعدل، لا نستطيع كما ذكرت سابقًا أن نتنبأ متى بالضبط ستطلق المادة المشعة جسيمًا فقد يكون هذا بعد ساعة أو أقل أو أكثر، لكن عندما تطلق المادة المشعة الجسيم يؤدي هذا الجسيم إلى تشغيل مطرقة تكسر قارورة السم، وبالتالي إلى موت القطة. السؤال الذي سأله شرودنجر هو: بعد ساعة من الزمن هل القطة حية أم ميتة؟ وهذا السؤال أعقد مما يبدو، فقبل أن نفتح الصندوق لنفحص هناك إمكانيتان أمام المادة المشعة فإما أن تكون قد أطلقت جسيماً أو لا، لكن كل من الحالتين لها إسقاطات مختلفة على القطة فقبل انطلاق الجسيم القطة حية ترزق وبعد انطلاقه تصبح ميتة لا روح فيها. لكن كما ذكرنا، بحسب تفسير كوبنهاجن قبل القياس (أي فتح غطاء الصندوق) تكون المادة المشعة في الحالتين معا، أي حالة بعد إطلاق الجسيم وبنفس الوقت في حالة قبل إطلاقه (تمامًا كما يمر الإلكترون من الشقين معًا في تجربة يانغ)، إذا حسب تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم، تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت. سأكرر، لا تكون القطّة إما ميتة أو حية بحسب هذا التفسير، كما تقول الفيزياء الكلاسيكية، بل القطة حية وميتة في نفس الوقت، لأن الحالتين متاحتين لها. هذا حتى نقوم بفحص الصندوق، عندها وعندها فقط، تقرر المجموعة على أي من الحالتين ستستقر! وهذا بالطبع رفضه شرودنجر، كما يرفض قبوله جميعنا أيضًا، لأنه مناقض للعقل والمنطق. لكن الأمور ليست بهذه السهولة إذ أن عملية القياس هي عملية كلاسيكة بجوهرها (تعطي معلومات محددة عن الواقع) والعلاقة بين عالم الكم الذي مسرحه أصغر الأبعاد والعالم الكلاسيكي الذي يقطن في عالم الأبعاد المعتادة لنا هي علاقة غير واضحة ويجب أن تدخل في محاولة تفسير مثل هذا الوضع.

دعا هذا الواقع الغريب الذي تمليه علينا بعض تفسيرات ميكانيكا الكم أينشتاين أن يسأل أحد أترابه وهو أبراهام بييز (Abraham Pais) الذي كان من المؤمنين بتفسير كوبنهاجن لنظرية الكم حين كانا يتحدثان عن طبيعة الواقع: "أحقا تعتقد بأن القمر يكون موجودًا فقط حين أنظر إليه؟" وهو سؤالٌ افتراضي يعكس مدى هذا التعقيد الذي تفرضه علينا نظرية الكم حين نحاول أن نفهم طبيعة الواقع، على هذا أجاب بوهر "مهما حاول أينشتاين فهو لن يستطيع إثبات وجود القمر حينما لا ينظر إليه". يشبه سؤال أينشتاين هذا سؤال الفيلسوف الإنجليزي باركلي "هل تصدر شجرة إذا سقطت في غابة صوتًا إذا لم يكن هناك من يسمعها؟".

 

التشابك الكمّي (Quantum entanglement)
[* قد يكون مضمون هذا القسم من المقال صعبا على القارئ. بالامكان تخطيه إلى القسم التالي من دون فقدان الاستمرارية.]

بقي أينشتاين حتى نهاية حياته غير مقتنعٌ بأنّ نظرية الكم هي النظريّة الأخيرة وأنها تعكس حقيقة الواقع كما هو. ومعارضته كان لها دورٌ كبيرٌ في تحديد وتوضيح الأسئلة العميقة التي تكمن خلف هذه النظرية والإسقاطات المذهلة التي تحملها في طياتها عن طبيعة الواقع وموضوعيته. شن في عام 1935 أينشتاين أهم حملاته على قلعة نظرية الكم التي كانت في ذلك الوقت قد وجدت الكثير من الدعم التجريبي والتطبيقي. أتى هذا الهجوم على شكل مقال كتبه مع زميليه بوريس بودولسكي (Boris Podolsky) ونتان روزن (Nathan Rosen، الذي علمني موضوع النظرية النسبية العامة) ويعرف هذا المقال باسم EPR نسبة لمؤلفيه الثلاثة. لم يتحدى مؤلفو هذا المقال الطبيعة الإحصائية لنظرية الكم بل تعمدوا إلى انتقاد ما هو أعمق بكثير وهو مفهوم هذه النظرية للواقع نفسه.


هناك في صلب المقال تجربةٌ ذهنيةٌ سأحاول تبسيطها كما يلي: لنفرض أننا هيئنا مخبريًا جسيمين لكل منهما صفتان فيزيائيتان A و B تخضعان لمبدأ اللايقين، بحيث أننا إذا عرفنا A1، أي A للجسم الأول، بدقة كبيرة لا نستطيع أن نعرف B لنفس الجسم، أي B1 . هذا طبعا لا يعني أننا لا نستطيع معرفة A1 بدقة متناهية للجسم الأول و B2 للجسم الآخر في نفس الوقت، والعكس بالعكس. لنفرض أننا هيئنا المجموعة بحيث أنّ A الكلي للجسمين هو صفر (0=A1+ A2) و Bالكلي للجسمين مجتمعين هو أيضًا صفر (0= B1 + B2). مثلًا جسم ساكن ينقسم إلى اثنين. ينطلق كلّ من هذان الجسمين في اتجاه معاكس حتى يبتعدان عن بعضهما بعدا كبيرا بحيث يصبحا في الطرفين المتعاكسين لمجرتنا ولا يؤثر الواحد منهما على الآخر. لنفرض الآن أن هناك مراقب في الطرف الأول للمجرة يقيس الصفة A1 للجسم الأول، طبعا، بحسب مبدأ اللايقين، لا نستطيع عندها أن نقيس الصفة B1 لنفس الجسم. وفي الجهة الأخرى من المجرة هناك مراقبٌ آخرٌ يقوم بقياس الصفة B2 للجسم الثاني، لكن بما أنّ محصلة الصفة A للجسمين هي صفر(A1+A2=0) نستطيع أن نعرف قيمة A2 للجسم الثاني بمجرد قياس قيمة A1. كذلك الأمر بالنسبة للصفة B، بحيث إذا قسناها للجسم الثاني تستطيع أن نعرف قيمتها للجسم الأول. أي أننا نستطيع معرفة المقادير الأربعة لهذان الجسمان بواسطة عمليتي القياس المذكورتين. تطرح هذه التجربة سؤالين، الأوّل هو: بما أنّه حسب تفسير كوبنهاجن، الجسم الأول لا يعرف ما هي قيمة A1 حتى يتم قياسها، كيف إذا يعرف الجسم الثاني ما هي قيمة A2 التي يجب أن يحصل عليها، إلّا إذا انتقلت المعلومات من الجسم الأول للثاني بسرعة لا نهائية؟ تذكر لقد ابتعد الجسيمان ابتعادًا كبيرًا عن بعضهما لأنهما في طرفي نقيض من المجرة! السؤال الثاني هو: ألم نستطيع أن نعرف بهذه الطريقة قياس الصفتين A1 و B2 بدقة متناهية بواسطة القياس المباشر و A2 وB1 بشكلٍ غير مباشر؟ ألا يناقض هذا مبدأ اللايقين؟


لهذا يستنتج مقال EPR بأنّ هناك خلل مبدأي في نظرية الكم. أو كما ذكر المقال: "لهذا يستخلص المرء بأن وصف الواقع بواسطة دالة الموجة [الكمية] هو غير كامل."


هناك فرضية أساسيّة في هذا المقال وهي أن الواقع الفيزيائي محلي أو بكلمات أخرى يخضع لمبدأ المحلية (Principle of Locality)، أي أن ما يحدث في مجموعة معينة هنا لا علاقة له بما يحدث في مجموعاتٍ بعيدة جدًا عنها وهو بحسب أينشتاين وزملائه مبدأ أساسي في الطبيعة. كان رد أنصار مدرسة كوبنهاجن جوهريًا أن مبدأ المحلية لا ينطبق على فيزياء الكمّ، وهو ما يسمى بالترابط الكمي (Quantum entanglement)، أيّ أنه إذا كان هناك جسيمان في تفاعل في أي وقتٍ في الماضي فنحن لا نستطيع عندها وصفهما كجسمين مستقلين حتى إذا كان البعد بينهما كبيرًا جدًا.


المذهل أنه في عام 1964 اقترح العالم الايرلندي الأصل جون ستيوارت بيل (John Stewart Bell) نظريةً خلّاقةً تُمَكّن من فحص أيّ التفسيرين هو الصحيح، تفسير أينشتاين أم تفسير مدرسة كوبنهاجن. وبالفعل قام عددٌ من الفيزيائيين التجريبيين بفحص هذه النظرية ليجدوا أنّ الطبيعة تتفق مع مدرسة كوبنهاجن وليست مع أينشتاين وتفسيره الذي ادعى بأن نظرية الكم ليست نظرية كاملة، أيّ أن الترابط الكمي هي صفة حقيقية للطبيعة! وهي حقيقة غريبةٌ جدًا وتبدو غير منطقيةٍ أبدًا، إذ أن جسماً ما في مكان معين، كان قد تفاعل في الماضي مع جسم آخر، هو الآن مرتبط به حتى لو كان في الطرف الآخر من الكون، وهي ميزة قال وصفها أينشتاين: "تفاعل مخيف من بعيد" (spooky action at a distance)!

 

تفسيرات نظريّة الكمّ

كما رأينا فإن فهم معنى قوانين نظرية الكم وإسقاطاتها على طبيعة الواقع ومعناه هو أمرٌ في غاية الأهمية، لكن بالرغم من أهميته فهو أمر يشغل في الأساس فلاسفة العلوم، لأن أغلب الفيزيائيين يستعملون قوانين نظرية الكم ويطوّرون تطبيقاتها من غير التساؤل عن معناها الفلسفي العميق ويقبلونها كما هي. فهذه النظرية، بالرغم من الأسئلة التي تثيرها، هي أنجح نظرية فيزيائيّة عرفها البشر في تاريخهم وتصف بدقةٍ كبيرةٍ الأغلبية الساحقة من الظواهر من حولنا (باستثناء المجموعات التي تحتاج أيضًا نظرية أينشتاين للجاذبية). من أجل تطوير فهم عميق لنظرية الكم هناك أكثر من 20 تفسيرًا مختلفًا لقوانينها ومعناها التي اقترحت من قبل فيزيائيون و فلاسفة. ما يشغل هذا التفسيرات هو المعنى العميق لنظرية الكم وعلاقتها بالواقع الموضوعي، ما هي العناصر الحتمية والاحتمالية في هذه النظرية، ماهية وتصنيف الادعاءات الأنطولوجية (التي تتعلق بما هو موجود) والابستمولوجية (التي تتعلق بكيفية معرفة ما هو موجود) التي تحملها هذه النظرية، ما هي الصفات المحلية (local) والصفات المترابطة (entangled)، كيف نفهم دور المراقب في تحديد نتائج التجارب، والخ.


لا يسعني هنا ذكر كل هذه التفسيرات ولكني سأذكر باقتضاب شديد بعض التفسيرات المهمة منها. لقد ذكرنا حتى الآن ثلاثة من هذه التفسيرات، الأول هو تفسير مدرسة كوبنهاجن، الثاني هو تفسير أينشتاين والمتغيرات المستترة، والثالث هو توجه محايد، وهو كما ذكرت توجه أغلب الفيزيائيين.


سأبدأ بأحد أكثر التفسيرات إثارةً، وهو التفسير المعروف باسم "تفسير العوالم المتعدّدة" (many-worlds interpretation)، الذي اقترحه عام 1957 هيو إيفرت الثالث (Hugh Everett III). يرفض هذا التفسير الفرضيّة القائلة بأن التجربة تُرغم الطبيعة على اختيار إحدى الإمكانيات الموجودة أمامها، بل يفرض بأنّ الكون يختار كل الإمكانيات المعروضة أمامه ولكن لكل من هذه الخيارات ينشأ عالم مختلف يتطور، بعد هذا الاختيار، بشكلٍ منفصلٍ عن العوالم التي تمت بها اختيارات أخرى. وهو تفسير يحلّ بعض إشكاليات نظرية الكم ولكنه يقترح وجود عوالم متوازية تخلق عند كل عملية قياس (أي تفاعل) بيننا وبين المجموعات الكمية، وهو أمر يحدث كل الوقت. هذا التفسير يدخلنا في متاهات فيزيائية وفلسفية فهو يبدو، لأول وهلة على الأقل، أنه يفسر وضع معقد بواسطة وضعٍ أكثر تعقيدًا. المفاجئ في الأمر هو أن هذا التفسير يجد قبولًا عند عدد لا بأس به من الفيزيائيين وهو يدخل ضمن إطار النظريات متعددة الأكوان (multiverse theories).


التفسير الأخير الذي أذكره هنا هو أيضًا مثيرٌ للاهتمام والجدل، ويسمى "الإدراك يؤدي للانهيار" (consciousness causes collapse)، والقصد هنا انهيار دالة الموجة لتختار إمكانيةً واحدةً من كل الإمكانيات المتاحة لها. ويدعي مقترحو هذا التفسير، جون فون نيومان ((John von Neumann، وهو أحد آباء الحاسوب الحديث) ويوجين ويغنر (Eugene Wigner)، بأنّ عملية القياس تتطلب كائنًا واعيًا للقيام بها وهو جزءٌ لا يتجزأ من التجربة. أيّ أنّ وعينا هو الذي يتفاعل مع المجموعة التي نريد قياسها ويجعلها تأخذ حالة معينة خلال عملية القياس. وقد يبدو هذا التفسير غريبًا لأول وهلة، ولكن في السنوات الأخيرة تزداد الدلائل حول الطبيعة الكمية للعمليات البيولوجية التي تتحكم في إدراكنا. تعتبر المجموعات البيولوجية عادةً مجموعات كلاسيكية ولكن هناك اعتقاد بأن فيزياء الكم قد تلعب دورًا في عملية الإدراك والتفكير التي تحدث في الدماغ. بدأ هذا الاعتقاد مع كتاب الرياضي الشهير روجر بنروز (Roger Penrose) بعنوان "عقل الإمبراطور الجديد" (The Emperor's New Mind) والتي اقترح بها بأن حل لغز الإدراك يكمن في مجال الأبعاد التي يتم بها الانتقال من فيزياء الكم إلى الفيزياء الكلاسيكية. ولكن قد يطرق هذا السؤال أذهاننا: ما لهذا وللتجارب المخبرية؟ ما علاقة الطبيعة الكمية لعملية الإدراك والكترونات التي تتداخل في تجربة يانغ؟


تشكك هذه الأسئلةٌ المثيرةٌ في وجود واقع موضوعي محدد. يبدو هذا التفسير لي مبالغا فيه، ينجرف على أمواج الحماس لهذه النظرية الخلابة، فماذا إذا حضّرنا تجربةً ودربنا كلبًا ذكيًا بأن يقوم بتشغيلها ونحن بعيدون عن المختبر، هل عندها يحدد نتيجة التجربة وعي الكلب؟ وإذا كان هذا فكيف لا تفرق الطبيعة بين وعينا ووعي الكلب بل تعطينا نفس نتائج التجربة؟ باعتقادي الطبيعة لا تحتاجنا كي تكون، فهي حقيقيةٌ بغض النظر عن إذا رصدناها أم لا، فهي ليست كجمال حبيبة يراها عشيقها آيةٌ في الحسن بينما يراها الآخرون امرأةً عادية. الطبيعة هي واقع موضوعي لا يحتاجنا ليكون ولو بشكلٍ جزئي! المثير للاهتمام في الأمر بأن أغلب هذه التفسيرات عادةً ما تثير أسئلة أشد غرابة من النظرية التي تحاول فهمها، فبدلًا من تسهيل إدراك الطبيعة علينا، تجعلنا كالمستجير من الرمضاء بالنار.


لربما علينا أن نقبل نظرية الكمّ من غير تساؤلات ونتبع نصيحة: احسب واصمت. ولكن إذا قبلنا هذا نصبح كالحاسوب الذي يقوم بحساباتٍ معقدًةٍ جدا ولكنه لا يفقه شيئًا ممّا يحسبه. فجمال الفيزياء والطبيعة بالنسبة لنا تكمن في عملية الإدراك التي من غيرها نفقد الميزة الأساسية من دراستنا للطبيعة، وهي محاولة فهمها!ّ هذا الفهم وإن كان صعبًا، منقوصًا، وحتى غير دقيق، هو الذي يرفعنا عن مرتبة الآلة التي تنفذ سلسلة من التعليمات التي غذاها بها أحدهم. إذا، فليحسب من يشاء وليصمت من يشاء ولكن هذا لا يعفينا من واجب المعرفة ولا التمتع بنشوة فهم الطبيعة.

 

الإرادة الحرّة

لا يسعني هنا الدخول في كل الإسقاطات الفلسفية لنظرية الكم ولكني أود أن أذكر باقتضاب شديد بعض النقاش الفلسفي على الرغم من كونه خارج بؤرة تركيز وسياق هذا المقال. وهو العلاقة بين الحتمية والإحصائية في قوانين الطبيعة وعلاقتها بالإرادة الحرّة. كما رأينا، أدت الحتمية في الفيزياء الكلاسيكية بالبعض إلى الاعتقاد بأن "شيطان لابلاس" يعرف كيف سيتطور الكون في كل لحظة. إذا كان هذا صحيحاً فالإنسان أيضًا، المكوّن من جسيمات مادية، لا يستطيع التحكم بتصرفاته لأن كل شيء قد قرر مسبقًا بحسب قوانين الطبيعة. إذا بحسب هذا المنطق نحن غير مسئولين عن أفعالنا مهما كانت رديئة أو جيدة، ولا يحق لأي سلطة، قانونية أو دينية أو غيرها، محاسبتنا عليها! ولكن هذا لا يطابق تجربتنا اليومية فنحن نقوم بخيارات كل الوقت، أي شيء نأكل اليوم، أي ثياب نلبس، ماذا نقرأ، كيف نتعامل مع أصدقائنا، وغيرها من آلاف القرارات اليوميّة التي نتخذها، والتي كان من الممكن أن نقرر غيرها. هذه كانت المشكلة الأساسية لمفهوم الارادة الحرة مع حتمية قوانين الطبيعة.


تحل نظرية الكم لأول وهلة هذه التناقض، لأن الطابع الإحصائي والاحتمالي لقوانينها، يترك المجال أمام نتائج مختلفة بالرغم من أن الظروف تكون مماثلة. فقد يقرر أحدهم أن يتصرف بشكلٍ معين بينما يقرر شخص آخر أن يتصرف بشكل مغاير تحت نفس الظروف. في الحقيقة، لم تحل مشكلة الإرادة الحرة، كما تعرف بالفلسفة، مع قدوم فيزياء الكم، بل اتخذت شكلًا آخر. فقد تحول السؤال من كيف يمكن لقوانين حتمية أن تسمح بوجود إرادة حرة، إلى سؤال آخر وهو، كيف يمكن لقوانين إحصائية عشوائية أن تحكم حرية إرادتنا وأن تترجم إلى خيارات منطقية مبنية على العقل والتحليل. فإذا كانت الحتمية تدمر حرية الإرادة، فإن القوانين الإحصائية تحولها لإرادةٍ عشوائية، اعتباطيةٍ وغير منطقيةٍ. هناك الكثير ممّا يمكن أن يقال هنا بالطبع ولكني أكتفي بهذا القدر وأنصح القارئ المهتم بقراءة أحد المصادر العديدة التي كُتبت عن هذا الموضوع.


ا
لجزء الثالث: طاقة العدم ونشوء الكون

 

طاقة اللاشيء


كما ذكرت في البداية، الهدف الأساسي من هذا المقال هو فحص علاقة نظرية الكم في الكون وتكوينه. ولكن لنرى هذه العلاقة علينا الاطلاع أولا على صفةٍ أخرى من الصفات غير الاعتيادية لنظرية الكم، إلّا وهي صفات الفراغ (vacuum العدم)[1]. الفراغ في الفيزياء الكلاسيكية هو مكان خاوي لا يحوي شيئا ولا توجد به أيّ فعالية أو "حياة"، أما في فيزياء الكم فالفراغ يعج بالحياة، و بحالةٍ دائمةٍ من ولادة الأجسام واندثارها على الرغم أنه مبدئيًا خاوٍ تمامًا. أحد أهم صفات الفراغ في فيزياء الكم هي أن له طاقة، ولكن كيف يكون للعدم طاقة؟ لنجيب على هذا السؤال، علينا أن نعود إلى مبدأ اللايقين المتعلق بالطاقة والزمن الذي ذكرناه سابقًا. تسمح نظرية الكم بحسب هذا المبدأ بإنتاج طاقة كبيرة لزمنٍ قصيرٍ جدًا حتى في مكانٍ خاوٍ من أي شيء. لهذا، حتى في الفراغ التام حيث نعتقد أنه لا يوجد شيء، تتأرجح الطاقة في أي نقطة في الفضاء لقيم مختلفة، منها الطفيف جدًا ومنها المرتفع جدًا، بشرط أن يختفي هذا التأرجح خلال وقتٍ قصيرٍ جدًا بحيث يخضع لمبدأ اللايقين. ولكن في اللحظة الذي ينتج هذا التأرجح الكمي طاقة عالية من هذا النوع في مكان ما، تتحول هذه الطاقة بحيث "ينبثق" عنها جسيمان، جسيم وجسيم مضاد (particle and antiparticle) التي تسمى بالجسيمات الافتراضية (virtual particles)، لأنها كما ذكرنا، ينشئآن لزمنٍ قصيرٍ جدًا ومن ثَمّ يندثران. يجدر التنويه إلى أنّ الجسيم المضاد يشبه الجسيم في كل شيء ما عدا شحنته الكهربائية المعاكسة تمامًا لشحنة الجسيم (بمعنى شحنة سالبة وموجبة)، وإذا التقى جسيمان من هذا النوع يلغي أحجهما الآخر و يتحولان إلى جسيماتٍ أخرى (مثلا فوتونات). إذًا في عالم فيزياء الكم الغريب فإنّ الفراغ الذي لا يحوي شيء هو في الحقيقة بحرٌ هادرٌ من الفعالية والنشاط.


الآن، لنتخيل فراغًا يعج بمثل هذه الأزواج التي تخلق وتندثر بأسرع من لمح البصر. طاقة الفراغ في هذا العالم ليست صِفْرًا، لأنّ تفاعل هذه الأجسام، التي تنتج في نقاط عديدة في الفضاء، مع بعضها البعض يعطي للفراغ طاقة معينة، صغيرةً جدًا، ولكنها أكبر من صفر. وهذا مفهوم من الصعب قبوله، إذ كيف يمكن لمكانٍ فارغٍ تمامًا أن يحمل طاقةً، مهما كانت صغيرةً؟ هل يوجد لهذا الإدعاء أي دعم تجريبي؟ اقترح الفيزيائي الهولندي هندريك كازيمير (Hendrik Casimir) في عام 1948 تجربةً لفحص وجود طاقة الفراغ. وبالفعل، تم إجراء هذه التجربة التي أثبتت صحة تكهنات نظرية الكم من ناحية وجود طاقة الفراغ ومن ناحية قيمة هذه الطاقة. إذًا، الفضاء الخاوي في نظرية الكم هو كخلية نحلٍ أو كفَرَس امرئ القيس، مليء بالفاعلية والنشاط، تتأرجح فيه الطاقة كأمواج البحر راقصةً بين نشوء الجسيمات واندثارها، في دورةٍ مستمرةٍ من الحياة والموت، تتفاعل فيها هذه الأجسام الإفتراضية التي تنتج في اللاشيء مع بعضها البعض في عربدة صاخبةٍ مكتظةٍ بالحياة. يسمى هذا التماوج الهادر من نقطة لأختها، بالتذبذب الكمي.

الكون ونظرية الكم

نأتي الآن للكون وارتباطه بفيزياء الكم! أود، في البداية، أن أشدّد مجددًا على العلاقة الوثيقة بين التجربة والرصد من جهة، والفهم النظري لطبيعة الواقع من جهة أخرى. صحيحٌ أن النظرية العلمية تختلف جوهريًا عن النظرية الرياضية، لأن الأخيرة يمكن إثباتها بواسطة المنطق الاستنباطي (deductive logic)، أي أن صحتها محتمة إذا كانت فرضياتها الأولية صحيحة. بينما هذا غير ممكن في حالة النظرية العلمية التي تستمد مصداقيتها من نجاحها التجريبي ومن قدرتها على التنبؤ بحيثيات الواقع الموضوعي، أيّ أنّ النظرية العلميّة رهن الامتحان دائمًا. ولكن مع تراكم الدلائل التي تتماهى معها تكتسب النظرية العلمية موقعًا مميزًا، بحيث تتعدى كونها "مجرد نظرية"، فهي على الأقل ظاهريًا تقول لنا شيئًا، ولو بشكلٍ تقريبي، عن الحقيقة العميقة الكامنة في ظواهر الطبيعة. قد يتضح في النهاية بأنّ نظرية علمية معيّنة، بالرغم من نجاحها الباهر سابقًا، هي في الحقيقة خطأ، كنظرية نيوتن حول الجاذبية. ولكن بالرغم من هذا فقد بقيت ذات منزلةٍ خاصّةٍ لأنها تصف الطبيعة بشكل تقريبي في أغلب الظروف. أيّ أن شرعية النظرية العلمية تستقى من نجاحها في وصف الواقع.


هذا هو حال نظرية الانفجار الكبير، العمود الفقري لفهمنا العصري للكون، فهي تبدو خياليةً للقارئ غير الخبير. تتنبأ هذه النظرية في الواقع وتتلائم مع كميةٍ هائلةٍ من المعطيات، التي ما زالت تتدفق بتسارعٍ طردي والتي تغطي أزمان وأبعاد الكون المختلفة. إنّ نجاح هذه النظرية منقطع النظير ليس فقط لأنها تقول لنا ما حدث في بداية الكون بل لأنها تزودنا بتسلسلٍ زمني، فراغي (بمفهومٍ هندسي) ومنطقي لكوننا، بحيث تحوّله من مجموعٍ هائلٍ من الظواهر والأحداث المنفصلة غير المرتبطة إلى واقعٍ واحدٍ ذو عمودٍ فقري متناسقٍ يمتد عبر الزمان والمكان.


تلعب نظرية الكم دورًا أساسيًا في فهمنا للكون ومراحله المختلفة، وهو موضوعٌ أتناوله في مكان آخر. ولكن ما أتناوله هنا هو دور طاقة الفراغ (العدم) في الكون اليوم وفي اللحظات الأولى لنشأته.

 


[1]يجدر التنويه بأن كلمة فراغ تستعمل كثيرا في اللغة العربية بمفهوم فضاء (space)، أي مجموعة النقاط المتخيلة التي تقطن كل منها في مكان مختلف وتحدد هندسة (geometry) المجموعة. في هذا المقال نستعمل كلمة فراغ بمفهوم آخر، أي بمفهوم المجموعة التي لا تحوي شيء (vacuum).

.

طاقة العدم المركب الأساسي في كوننا اليوم

من أبرز إنجازات علم الكون في العقدين الأخيرين هو نجاح العلماء بقياس الطاقة الكامنة في مركباته، ولهذا قصة مثيرةٌ سآتي عليها في مكان آخر. أذكر هنا، لحاجة موضوعنا، النتائج الأساسية لهذه القياسات التي حملت معها عدد من المفاجآت. النتيجة الأولى هي نسبة مركبات الكون الأساسية اليوم (انظر الرسم):

المادة العادية: نعني بهذا ببساطة المادة التي تكوّن أنوية العناصر الكيماوية، أي البروتونات والنيوترونات (المكوّنَة بدورها من الكواركات quarks). تسمى هذه المادة على لسان الفيزيائيين المادة الباريونية (baryonic matter)، وتشكل هذه المادة تقريبًا 5% فقط من مركبات الكون. لنتمعن بهذا قليلا، نسبة المادة الباريونية الضئيلة تخبرنا بأننا مصنوعون من مكوّنٍ جانبي صغيرٍ من مركبات الكون. وهذا بمفهوم معين امتدادًا للثورة الكوبرنيكية التي خلعت الكرة الأرضية، وبالتالي، الإنسان "أسمى المخلوقات"، عن عرش موقعها المركزي في الكون. فنحن لا نقع في مركز المجموعة الشمسية فحسب، بل شمسنا هي نجمٌ عادي يدور في فلك مجرةٍ عادية، وهي بدورها مجرد مجرة من مئات مليارات المجرات في الكون المرئي. هذا الانتقال المذهل من الإنسان كمحور الأشياء وعلة وجودها، إلى كائن جانبي يعيش على كوكب صغير مصنوع من مادة هامشية، هو برأيي التجسيد الأوضح للثورة العلمية التي ما زالت تحلق بنا على جناحيها.


المادة المعتمة (dark matter): وهي مادةٌ مكونةٌ من جسيماتٍ تتفاعل بشكلٍ ضعيفٍ جدًا مع المادة الباريونية، وهي لا تشارك في القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية التي تحملها البروتونات والنيوترونات. نتيجةً لذلك من الصعب اكتشاف تأثيرها من حولنا إلا عندما ننظر إلى مجموعات فيزيائية كبيرة جدًا، كالمجرات بحيث نستطيع رصد تأثير هذا الشكل من المادة عن طريق تفاعلها مع قوة الجاذبية، أضعف قوى الطبيعة. وتشير القياسات العديدة أن المادة المعتمة تكون 25% تقريبًا من مركبات الكون.


الطاقة المعتمة (dark energy): وهي أحد أكبر المفاجآت التي اكتشفت في العشرين عامًا الأخيرة. وهي عبارة عن طاقةٍ كامنةٍ تدفع في الكون إلى التسارع، لا التباطؤ في الانتشار كما كنا نعتقد سابقًا. وهذه الطاقة مرتبطة تاريخيا باقتراح الثابت الكوني، الذي أضافه أينشتاين عام 1916 إلى معادلته الشهيرة بهدف الحصول على كون ساكن، بحيث لا ينتشر ولا يتقلص. وتشكل هذه الطاقة 70% من مركبات الكون. يتعلق الفهم الحديث لهذه الطاقة بطاقة الفراغ الكمية. انتشار الكون المتسارع يدفع بكثافة المادة إلى قيمٍ صغيرةٍ جدًا تتلاشى بتسارعٍ مع مرور الزمن، أي يقترب الكون حاليًا من الفراغ المطلق. وكما ذكرنا، بحسب نظرية الكم يحمل هذا الفراغ طاقة، إنها هذه الطاقة التي تكوّن 70% من مركبات الكون. أي أن المركب الأساسي للكون الآن هو طاقة العدم التي نستطيع فهمها فقط بواسطة نظرية الكم!


الغريب في الأمر بأننا نعرف أنّ المادة المعتمة والطاقة المعتمة تشكلا 95% من مكونات الكون، ولكننا لا نعرف طبيعتها بوضوح.

 


تذبذب كمي من العدم

إذًا المفاجأة الأولى كانت أن طاقة العدم هي المهيمنة اليوم في كوننا. لكن هناك نتيجةٌ أخرى ذات إسقاطاتٍ مذهلةٍ وهي الطاقة الكلية للكون. إذ أصبح الآن واضحًا أن مجموع مركبات الطاقة في الكون قريبةٌ جدًا من الصفر! وهي نتيجة مهمةٌ جدًا ولكنها غير مفاجئة لأسباب عديدة لن أخوض بها هنا. السؤال الأول الذي يُسأل هنا هو: كيف يمكن للطاقة في الكون أن تكون صفرًا ونحن نرى أنه مليء بالمادة والحركة والأشعة الكهرومغناطيسية كل الوقت؟ ألا تعطي هذه الأجسام والأشعة طاقة ايجابية؟ إذا كيف للطاقة الكلية للكون بأن تكون صفرًا؟ الإجابة على هذا السؤال بسيطة، فبالإضافة لمصادر الطاقة الموجبة، هناك أيضًا طاقة الجاذبية وهي طاقةٌ سالبةٌ (لأنه علينا أن نوظف طاقة من الخارج لنفصل جسمين يجذبا بعضهما بقوة الجاذبية) تعادل بالضبط أنواع الطاقة الموجبة في الكون، وهذه حقيقة مذهلة لأنه كان بإمكان طاقة الكون أن تأخذ مالا نهاية من القيّم السالبة أو الموجبة، لكنها اختارت أن تكون بالضبط صفرًا. لهذه النتيجة سبب عميق سوف أتطرق إليه في مكان آخر.


لكن من أين أتى الكون؟ كيف نشأ؟ هنا أيضا تأتينا نظرية الكم بإجابة. لنتذكر بأن نظرية الانفجار الكبير تعني أن حجم الكون في بدايته كان صغيرًا جدًا بحيث تسيطر عليه نظرية الكم. الصورة التي يجمع عليها أغلب العلماء هي كالتالي. في عدم خاوٍ (حتى من الهندسة) تنشأ فقاعةٌ صغيرةٌ من الفراغ الذي يبدأ بالانتشار بسرعة كبيرة (نستطيع إثبات هذا رياضيًا). يبدأ هذا الفراغ، الذي ما زال صغيرًا، بإنتاج جسيمات افتراضيّة، ذبذبات كميّة، التّي عادةً ما تندثر بسرعة بعد نشوئها، إذ سرعان ما يلتقي جسمٌ بنقيضه. لكن في بداية الكون، تتوسع فقاعة الفراغ هذه بسرعة كبيرة بحيث يمنع هذا التوسع الجسيمات الأولية الافتراضية أن تلتقي بنقيضها وبدلًا من أن تندثر تبقى في الكون. وعندما يكبر الكون أكثر يكبر فضاؤه وينتج جسيمات أكثر، يحافظ عليها توسع الكون الحثيث. أيّ أن الكون يستغل مبدأ اللاحتميّة لينشئ جسيماته. لكن ألا يتناقض هذا مع قانون حفظ الطاقة؟ الإجابة هي لا، لأن الجاذبية بين هذه الأجسام تحمل طاقةً سالبةً بحيث أن الطاقة الكليّة للأجسام تبقى صفرًا.


هذا هو المقصود بكونٍ من عدم. إذ تزوّدنا نظرية الكم بالقوانين الأساسيّة التي تجعلنا نفهم كيف نشأ كوننا من لا شيء. وهو إدراك، إذا كان صحيحًا، مذهل. لكن هل حقًا هكذا ابتدأ الكون؟ وهل يفسّر هذا كل شيء؟ هل أصبحنا نعرف لماذا نشأ الكون ولماذا له الصفات التي نراها؟ هل حلّت الفيزياء كل معضلات الوجود والواقع؟ هل نحن الجيل الأوّل من البشر الذي استطاع أن يحلّ هذه الأسئلة العميقة التي شغلت البشرية منذ بداية وجودها؟ هذا ما أجيب عليه في القسم التالي.

 


شيء من لا شيء: هل تُفسّر فيزياء الكمّ وجود الكون؟

"لماذا هناك شيء بدلًا من لا شيء؟"، سأل الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz) عام 1714. قد يكون هذا أعمق الأسئلة الفلسفيّة على الإطلاق فهو لا يسأل عن طبيعة الوجود وما يحتويه وما علاقة محتوياته الواحدة بالأخرى وإلى ما ذلك، بل هو يسأل عن أول الأسباب وعلّة الأشياء، كلّ الأشياء وليس فقط شيء ما. وهو سؤال شغل الفلاسفة والمفكرين على مر الأجيال. كما يبدو لأوّل وهلة، تحل لنا نظرية الانفجار الكبير ونظرية الكمّ هذه المعضلة، فهي تقول لنا من أين أتى الكون وكيف نشأ.


التّطور العلميّ الذّي شهدته البشرية في القرن الأخير منقطع النظير في التاريخ. فقد أصبحنا نفهم القوانين الأساسية التي تحكم الظواهر الطبيعية ونجحنا في استخلاص قصة كوننا من لحظاته الأولى حتى تطور الحياة بأشكالها المختلفة على الأرض، وأصبحنا نواجه المجهول مسلّحين بثقتنا بحكم العقل، مزوّدين بكمية هائلة من المعارف والقدرات التكنولوجية غير المسبوقة التي في حوزتنا. هذا مقابل الخوف والغيّبيات التي ميّزت تعامل أجدادنا مع العالم والطبيعة. قد يكون السؤال الذي سألناه هنا أوضح الأمثلة على مثل هذه الجرأة التي يزودنا بها العلم والمعرفة. فنحن نسأل من أين أتى الكون ونجيب على هذا بجوابٍ تفصيليّ علميّ يستند على قوانين الطبيعة الأساسية التي نعرفها.


لكن هل حقًا استطعنا بهذه الإجابة أن نفهم كلّ شيء؟ هل حقًا تفسّر فيزياء الكمّ ونظرية الانفجار الكبير وجود الكون؟


لأجيب على هذا السؤال المركزي سأقسم إجابتي، المختصرة، لعدة أجزاءٍ: لقد رأينا بأنّ فيزياء الكمّ، موضوعنا الأساسي هنا، هي أنجح النظريات العلميّة قط، فهي تخضع بنجاح لعددٍ لا يحصى من الامتحانات التجريبيّة العلميّة والتّطبيقات التّكنولوجية التّي تؤيد صحتها بدقةٍ غير مسبوقةٍ. لكن في نفس الوقت لا يوجد هناك اتفاقٌ واضحٌ على معنى نظرية الكم وما تقوله لنا عن طبيعة الواقع، كما رأينا أعلاه. هذا لا يعني بالطبع بأننا لن نستطيع أن نفهم في المستقبل معناها الحقيقي، هذه طبيعة الأبحاث العلميّة فقد تبقى مشكلة مستعصية لسنواتٍ وعقودٍ عديدةٍ، لكن يأتينا حلّها من حيث لا نتوقع ولا ندري. أضف على ذلك أننا نعرف أنّ نظرية الكمّ لا تصف كل ظواهر الكون لأنه ليس لها ما تقول إزاء قوة الجاذبية، التي تصفها النظريّة النسبيّة العامّة. فلربما عندما نفهم كيف نوحّد هاتين النظريتين، وهو أمرٌ ما زال مستعصيًا، نستطيع عندها فهم كنه المعنى العميق لنظرية الكم الجاذبية (quantum gravity)، كما تسمى. عندها أيضا من الممكن فهم كيف تكوّن الكون بشكل أوضح وطبيعي أكثر مما أوردناه هنا.


هناك جانبٌ آخر علينا مواجهته. لقد رأينا أنّ نظرية الكم تتناقض مع بعض الأمور المركزية في فهمنا البديهي للواقع، مثل إمكانية وجود جسم في مكانين مختلفين في نفس الوقت وغيرها من الظواهر المختلفة. لربما العيب الأساسي هو في البديهة التي نحملها بداخلنا وأدواتها. لقد نمت سليقتنا خلال تطورنا ككائناتٍ حيةٍ عبر مليارات السنين، و "زرعتها" بنا عملية الانتقاء الطبيعي. فنحن نفكر بديهيًا بواسطة منطق معين (مثل قوانين الحساب) وهندسةٍ معينةٍ (هندسة أقليدس المستوية) وقوانين فيزياءٍ معينةٍ (قوانين نيوتن) نتيجة تطوّرنا على الكرة الأرضيّة وفي بيئتها الخاصّة. هذه القوانين والمعارف البديهية "المزروعة" بنا، أسماها عمانوئيل كانط بالافتراضات التحليليّة والاصطناعية المسبقة (analytic and synthetic a priori proposition). لكن هذه المعارف البديهيّة والتي هي تقريب للواقع الفيزيائي السائد على الكرة الأرضية هي تجريدٌ (abstraction) مبسط تطوّر في داخلنا بواسطة عمليّة الانتقاء الداروينية، مثل باقي المخلوقات، حتى يساعدنا في حياتنا وتعاملنا مع البيئة المحيطة. نحن نعرف الآن أن قوانين نيوتن هي مجرد تقريب لواقعٍ أعمق تصفه نظرية الكم والنظرية النسبيّة، كما نعرف بأن هندسة إقليدس هي مجرد تقريب لهندسة الكون اللامستوية، وحتى قوانين المنطق التي نتبعها تتصرف بشكلٍ مختلفٍ على مستوى نظرية الكم. أيّ أنّ العيب في البديهة التي نحملها وليس في قوانين نظرية الكم التي علينا أن نغير سليقتنا حتى نفهمها.


لكن حتى إذا قبلنا أن الكون هو تذبذبٌ كمّي، هل يعني هذا أننا فهمنا كل شيء؟ بالطبع لا، فهذه الإجابة تفتح أسئلة أخرى! فعلى سبيل المثال، قد افترضنا صحة قوانين الطبيعة التي نعرفها لكي نفسر نشأة الكون ووجوده، لكن من أين أتت هذه القوانين؟ لماذا هذا هو شكلها؟ وإجمالًا، لماذا تحكم الكون قوانين؟ هذه الأسئلة نحن بعيدون جدا عن الإجابة عليها، وحتى إذا أجبنا عليها، سوف توفر هذه الإجابات أسئلةً أعمق عن أصلها وسببها. أيّ أننا لن نستطيع أبدًا الإجابة على ماهية السبب الأولّي، فكل مرة نصل بها إلى إجابة علمية حوله، تفتح هذه الإجابة البحث من جديد حول السبب الأعمق! أيّ أنّ الكون نتج كشيءٍ من لا شيء بمفهومٍ معيّن ولكنه بمفهومٍ آخر لا يمكن أن ينشأ من لا شيء.


قد يقول البعض، طبعًا هذا ما نتوقعه. إنّ نشوء الكون والطبيعة هما مساحة فعل الخالق والدين. لهؤلاء أقول مهلًا! قوانين الطبيعة كما نعرفها تحطم قصّص الأديان، كل الأديان، على محك الواقع. إذ لا توجد للأديان أي علاقة بطبيعة الكون كما نرصده ونفهمه علميًا. وماذا عن الله، كمفهومٍ مجرد بعيدٍ عن تفاصيل الأديان، ألا يمكن أن يكون هو السبب الأول للأشياء؟ بالطبع، قد يكون هذا ما قصده أرسطو وتوما الأكويني عندما تحدثا عن "المحرك الأولي" (prime mover). ولكن يخضع هذا التفسير لنفس التساؤل عن الأصل والسبب. أيّ التساؤل عن أصل ودافع وجود "السبب الأولي" في قوانين الطبيعة هو نفس التساؤل الذي يخضع له وجود "محرك أوّلي" خارج الطبيعة (إلهي). هذا على الرغم من أنّ أغلب الذين يقبلون بوجود "محرك أولي" خارج الطبيعة يتوقفون عند هذا ولا يسألون عن سبب وجود هذا "المحرك".


هناك فرقٌ أساسي بين قبول سبب أولي خارج الطبيعة و البحث عن سببٍ أولي طبيعي. إذ أن قبول الأول يعني التّوقف عن التساؤل، فلا يوجد سبب لأن نبحث أكثر. أمّا قبول خيار البحث عن سببٍ أولي طبيعي يعني، كما ذكرنا، عملية بحث لا نهاية لها لسبر غور الواقع الموضوعي، وعلى الرغم أننا نعرف أننا لن نصل إلى إجابةٍ نهائيةٍ، إلا أنه تنكشف أمامنا عند كل جولة شريحة أعمق من الواقع تكشف لنا معضلات جديدة مثيرة وخلابة. أي أنه كلّما حاولنا حل أحجيات الطبيعة وفك سحرها، تعود علينا هذه الحلول بأحجيات أعمق لتلقي علينا تعويذة سحر أكبر وأجمل. فمن توقف عن البحث عن الحقيقة، فقد القدرة عن الافتتان بجمالها.

 

النشرة البريدية

الرجاء تعبئة التفاصيل ادناه لتلقي نشرتنا البريدية