مقالات علمية للأعضاء

الثورة العلمية الغربية وعلماء العرب-البروفيسور سليم زاروبي

 سليم زاروبي
​فيزيائي فلك

لكن ما الضّرورة؟ ما الذي دفع كوبرنيكوس للتفكير بذلك؟" جال هذا السؤال في خاطري خلال الاستماع لمحاضرة أحد مؤرخي العلوم الأمريكيين عن نموذج كوبرنيكوس وبعض تفاصيله، قبل حوالي السنتين. كان نيكولاس كوبرنيكوس، البولندي الأصل، قد اقترح نموذجا في القرن السادس عشر يقضي بأن الشمس، لا الأرض، هي المركز الذي تدور حوله الكواكب السيارة. بعد نهاية المحاضرة سألت المحاضر سؤالي، فتلقيت إجابةً طويلةً غير مقنعةً، تتلخص بأن كوبرنيكوس فكر في هذا لوحده. بالطبع استمعت لإجابته بأدب ولكن أيضا بشكّ واضح٠

بعد أسبوع أو إثنين من هذه المحاضرة، قرأت لدهشتي ولصدمتي تعليقا لأحد الأصدقاء، وصف كوبرنيكوس بأنه لصّ وبأنه سرق نظريته من العرب! كيف يكون هذا ممكنًا؟ كيف لمكتشف إحدى أهم الاكتشافات العلمية أن يسرق فكرته الكبيرة؟ ومِن من؟
ما أزعجني هو أني لم أفكر في فحص العلاقة بين الثورة الكوبرنيكية وعلماء الفلك العرب من قبل. فكيف أقبل رواية علميةً مبهمة حول تاريخ هذه الفترة الهامة وأنا الذي أشغف بفلسفة العلم وتاريخه لحد الولع؟ إذن، أهدف في مقالي هذا البحث في مسألتين، الأولى هي أن أوضح الحقيقة الكامنة في ثنايا هاتين الروايتين المتناقضتين، هل هي في صف رواية المؤرخ الغربي أم صفّ الصديق العربي؟ أو ربما كلاهما، كما يقول مثلنا الشعبي، "يدير النار إلى قُرصِه"! المسألة الثّانية هي أن أسأل: وماذا إذا كانت الرواية التي تقول بأن كوبرنيكوس سرق فكرته هي الصحيحة؟ ماذا سيغير هذا؟

الثورة العلمية
يسمي مؤرخو العلوم مرحلة الانتقال من نموذج بطليموس، الذي وضع الأرض في مركز الأجرام السماوية، إلى نموذج كوبرنيكوس، الذي وضع الشمس في المركز، بأسم الثورة الكوبرنيكية. ابتدأت هذه الثورة مع نشر كوبرنيكوس لكتابه "حول دوران الأجرام السماوية" في عام 1543، مرورًا بقوانين العالم الألماني يوهانس كبلر الثلاثة حول حركة الكواكب السيارة، واكتشاف جاليليو لأربعة من أقمار المشتري التي أثبتت بأن الأرض هي ليست مركز حركة كل أجرام السماء، ونهايةً برائعة نيوتن "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية" في عام ٠1687

إذن، فهذه ليست من الثورات التي تحدث عادةً في السياسة والتي يتوخى مؤيدوها تغيير العالم في لمحة من البصر. مثل هذه الثورات هي مجرد سراب وأوهام، لأنّ التاريخ والمجتمعات لا تتغير برمشة عين. لا تحدث الثورات الحقيقية بين عشية وضحاها، بل هي تغيرات تدريجية متراكمة تعكس عمليات وتفاعلات عميقة، متشعبة، متشابكة وطويلة الأمد. وهي تتطلب صبرًا وإصرارًا وجهدًا كبيرًا من أعداد كبيرة من الناس والمؤسسات. الثورة الكوبرنيكية هي أكبر برهان على ذلك؛ فهي ملحمة فكرية، لها أبطال وأوغاد وانتصارات وإخفاقات. دارت أحداثها في بطون الكتب ومحافل العلماء وقصور البابوات. امتدت حيثياتها على مدى قرن ونصف، رأى العالَم خلالها ظهور النماذج الأولية للعلماء المعاصرين الذين يصبون لفهم الطبيعة وظواهرها كنشاط فكري وتجريبي منعزل عن الدين أو الأعراف السائدة في المجتمع، بل يتبعون الدلائل الرصدية والتجريبية أينما تقودهم. كما وراح ضحيتها الكثيرين من العمالقة مثل جاليليو الذي سجن وجيوردانو برونو الذي أحرق. ولكن أهم نتائجها كانت تغيير مفهومنا للكون والفلك والطبيعة إجمالا، وانتصار الطريقة العلمية ومبناها التجريبي والمنطقي على الغيبيات التي تتجاهل بيِّنات الرصد والتجربة. من الطبيعي أن هذه الثورة أدت إلى تحول جذري في جميع المجالات الفكرية وإلى ترسيخ المنهج العلمي، بحيث أصبح المنهج الأساسي لدراسة الطبيعة٠

الأمر الذي أود التطرق إليه بداية، هو جذور نموذج كوبرنيكوس. إذ تعطي أغلب المصادر الغربية الانطباع بأن بين بطليموس، الذي وضع نموذجه في عام 148 ميلادية، وكوبرنيكوس، لم يأت أحد بشيء جديد، اللَّهُمَّ إلاَّ بعض من المفكرين الغربيين الذين سبقوه. أي أن كوبرنيكوس ولّد نظريته من إصبع جوبيتر. يتلخّص دور الحضارة العربية الإسلامية، حسب هذه القراءة، بترجمة ونقل المعارف الإغريقية من اليونان القديم إلى الغرب، لا أكثر. فهي لم تجدد شيئًا يستحق الذكر لتطوير المعارف الإنسانية والمضي بها قدما! هذه إجمالا الصورة الاستشراقية في الغرب عن مساهمة العرب. وهي صورة مشوّهة ما زال معظمهم يرددها حتى اليوم، على الرغم من الأدلة الدامغة التي تقضي عكس ذلك!٠

دور الحضارة العربية الإسلامية
تنبه المؤرخون في الخمسينات من القرن الماضي إلى وجود عدد من النماذج في كتاب "نهاية السؤال في تصحيح الأصول" لعالم الفلك العربي ابن الشاطر، كان يُعتقد بانها تعود أصلا لكوبرنيكوس. المفاجأة هي أن ابن الشاطر، الذي كان يحمل لقب موقِّت المسجد الأموي في دمشق، عاش في القرن الرابع عشر أي قرنين قبل كوبرنيكوس. دفع هذا الاكتشاف وغيره مؤرخي العلوم إلى إعادة النظر بالعلاقة بين الفلكيين العرب من جهة وبين كوبرنيكوس وغيره من فلكيي عصر النهضة الأوروبي من جهة أخرى. كما ودفعتهم إلى دراسة البدائل التي ابتكرها المفكرون العرب لنموذج بطليموس، والتي كانت مبنية على تحديثات رياضية خلّاقة أثرت بشكل جلي على إنطلاق الثورة العلمية الغربية٠

على الرغم من النجاح الكبير لنظرية بطليموس، ابتدأ نقد العرب لها منذ القرن العاشر، ولكن الكاتب الأول الذي وضع نقدا منهجيا لها هو الفيزيائي الكبير ابن الهيثم في كتابه "الشكوك على بطليموس" الذي صدر في القرن الحادي عشر. لاحقا، أثارت أعمال عدد من علماء الفلك في الأندلس في القرن الثاني عشر انتقادات إضافية على بطليموس. ولكن الحركة الفكرية الأساسية التي عمليا دمرت النموذج البطلمي، نشأت في الشرق. وكان مركزها مرصد المراغة (في إيران) الذي أسسه نصير الدين الطوسي وأخرج العمالقة كالطوسي نفسه، ومحيي الدين الأوردي وقطب الدين الشيرازي وعلاء الدين ابن الشاطر الذي ذكرناه (الذي هو ربما أعظمهم) وغيرهم كثيرين٠

ما ميز حركة علماء المراغة، والتي أحيانا يطلق عليها اسم ثورة المراغة، هو اعتمادها وسائل رياضية متطورة للغاية (مثل مزدوجة الطوسي ونظرية الأوردي) واستخدامها من أجل التخلص، مما اعتقدوا بأنها مشاكل أساسية في نموذج بطليموس. أي أن العلاقة الوثيقة التي نعرفها اليوم بين النظريات العلمية والرياضيات قفزت قفزة جدّية جدا في أعمالهم، وربما كان هذا أهم تأثير لهم على تطور العلوم بشكل عام. ومن المذهل بأن أعمال هؤلاء العمالقة ظهرت في كتاب كوبرنيكوس بشكل جلي، ولكن من غير أن ينوه بدورهم ولا بأسمائهم. كما وامتدت هذه الحركة من القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر. بل إن هناك الكثير من الأعمال لعلماء هذه الحركة التي ما زالت قيد الاكتشاف والتحري. فهناك عدة دلائل تؤكد على أن أعمال فلكيي مرصد المراغة كانت مألوفة لعلماء ومفكري القرون الوسطى في أوروبا٠

علي الآن أن أواجه السؤال: ماذا كانت مساهمة كوبرنيكوس المبدئية؟ وهل "سرق" كوبرنيكوس كل نموُذَجه من العرب من غير أن يعطيهم حقهم؟ الإجابة على الشق الأول من هذا السؤال واضحةٌ، فحتى الآن لا نعرف أحدا من قبله وضع نموذجا رياضيا متكاملا وكمّيا، بحيث أن الشمس في مركز الكون − الكثيرون ادعوا بأن الشمس هي المركز (مثل اليوناني أرسطرخس الساموسي) ولكنهم لم يأتوا بنموذج متكامل يطابق المعطيات الموضوعية، ومن الممكن استعماله للتنبؤ بحركة الأجرام السماوية. بالرغم من الكثير من الادعاءات التي تظهر أحيانا، لا يوجد حتى الآن مصدر موثوق وواضح يدعم الادعاء بأن ابن الشاطر أيضًا وضع الشمس في المركز. هذا لا يلغي إمكانية وجود كتابات اقترح بها ابن الشاطرا ذلك، وصلت كوبرنيكوس ولكنها لم تصلنا. في الحقيقة أنا أميل للشك بذلك، لأن جلّ أعمال ابن الشاطر كانت تهدف إلى توفيق النموذج الفلكي مع كون أرسطو، وخطوة نقل مركز الكون من الأرض إلى الشمس هي انتهاك سافر لكَوْن أرسطو وفهمه للطبيعة٠

لماذا تجاهلونا؟
إذا لماذا لم يعطِ كوبرنيكوس علماء العرب حقهم؟ هذه، باعتقادي، نقطة ليست مهمة كثيرا ونستطيع تفسيرها بعدة طرق. أولا، معايير الاقتباس الشديدة التي نتبعها اليوم لم تكن موجودة في عهد كوبرنيكوس، فقلما اقتبس المفكرون في عصره ممن سبقوهم. وفي الحقيقة، يكرر كوبرنيكوس في كتابه أنه يحاول حل المشاكل التي أشار إليها "السابقون"، من غير أن يفصح من هم هؤلاء السابقون. إضافة لذلك نحن نعلم أن كوبرنيكوس لم يكن يعرف العربية، فمن الأرجح أنه تكشّف أعمال علماء المراغة بشكل غير مباشر. ومن الممكن أن أعمالهم كانت أساس المعرفة الموجودة لعلم الفلك في الأوساط التي تعلم بها في جامعة بادوفا الإيطالية، حيث نعرف بأن المراجع العربية كانت موجودة. أي أن كتابات علماء المراغة كانت جزءا من المعرفة العامة عن الموضوع، ربما من غير معرفة أسماء هؤلاء العلماء العينية (بالرغم من أنه ذكر بشكل واضح أسماء عديدة أخرى لعلماء عرب في كتابه)٠

من الواضح أن هناك أسباب أعمق لهذا التجاهل، ليس فقط من قبل كوبرنيكوس (الذي قد نغفر له) بل من قبل أجيال أخرى كثيرة من بعده من المفكرين الغربيين. لماذا هذا التجاهل؟ أولاً، كل حضارة تميل إلى أن تقتبس وتعظّم دور نفسها وأن تعزي لمفكّريها حصة الأسد من الرصيد وتخصصهم بالمفخرة والاعتزاز. فكم بالحري إذا كانت هذه الحضارة في طريقها إلى الصعود، وثقتها بنفسها وبنتاجها الفكري والعلمي والتكنولوجي في أوجها، بالذات في أولى فترات ارتقائها المجدد بعد سبات العصور الوسطى العميق. زد على ذلك بأن الحضارة العربية الإسلامية كانت، وبمفهوم معين ما زالت، الوحيدة التي تشعر الحضارة الغربية إزاءها بالمنافسة الحقيقية (لربما نتيجة لقربها الجوهري، الضمني والجغرافي). كما أن الحضارة العربية الإسلامية تشكل تحدّيا واضحا لقصة الغرب التي تقول بأن حضارته ابتدأت من "المعجزة الإغريقية" التي لم يكن قبلها ولا بعدها شيء طوال 15 قرن من الزمن، اللهم باستثناء تطوير طفيف للرومان لها، لتعاود نشاطها وانتاجها في عصر النهضة في الغرب بقدرة قادر. ولم يكن دور العرب وغيرهم سوى نقل معارف الإغريق إلى أوروبا، لا أكثر ولا أقل٠

بالطبع لا يمكن أن نتجاهل الدور الذي لعبته هذه القصة الحضارية المفتعلة في مشروع الاستعمار الغربي لاحقا. فهي التي سمحت لهم بأن يعتبروا نفسهم وحضارتهم "أرقى" من الحضارات والشعوب الأخرى مما سوغ لهم حق استعمارها والسيطرة عليها. أي أن هذا التجاهل عبر التاريخ هو جزء من واقع أكبر وأعمق من مجرد اقتباس أعمال في علم الفلك أو الطب أو الفلسفة، أو غيرها٠

ماذا يغير هذا؟
إذن، الأساس الفلسفي والرياضي والنظري الذي بناه علماء حضارتنا كان الأساس المتين الذي ارتكزت عليه أوروبا لتقوم بنهضتها، كما هو جلي في أعمال كوبرنيكوس وأترابه (مساهمة مشابهة تظهر جلياً أيضا في العلوم الطبية)، وهو الذي مهد الطريق للثورة العلمية الغربية. فعندما نقرأ كوبرنيكوس، نرى بأن هاجسه الأساسي هو نفس هاجس ابن الشاطر والطوسي، والأوردي وغيرهم. والأدوات النظرية والفكرية التي استعملها لحل معضلات حركة الأجرام السماوية هي نفسها التي طورها فَلَكيّو المراغة. أي أن نظرية كوبرنيكوس وثورته هي، إلى حد كبير، ابنة نظريات مدرسة المراغة٠

هل من المهم أن يعترف الغرب بتأثير الحضارة العربية الإسلامية على كوبرنيكوس وثورته؟ الإجابة على هذا هي نعم ولا!٠

نعم، لأن التاريخ هو أمر مهم. فمنه نتعلم الكثير عن طبيعة الحضارة الإنسانية وتطور المجتمعات والتيارات العميقة التي تحكم هذا التطور وتميز التفاعلات عناصره المختلفة. وفي هذا السياق بالذات، الدقة التاريخية في حيثيات انتقال المعارف الإنسانية وحدوث الطفرات الفكرية ونشوء التجديدات الإبداعية هي أمر في غاية الأهمية لفهم كيف طور الإنسان أرقى أفكاره، وأين تطورت، ولماذا. إذن، تكمن أهمية التاريخ بالأساس في ما نتعلم منه. لهذا يجب علينا قراءته وفهمه بشكل دقيق وموضوعي حتى نستخلص العبر الملائمة منه٠
بالإضافة إلى ذلك، هناك حق تاريخي علينا لهؤلاء العظماء، كابن الهيثم وابن رشد والطوسي والأوردي وابن الشاطر وغيرهم، الذين يجب أن تصفّ أسماءهم بحروف من ذهب في أجمل صفحات التاريخ الإنساني، إلى جانب أقرانهم من أبناء الثقافات الأخرى الذين ساهموا في بناء الصرح الفكري المتين الذي وصلت إليه الإنسانية. لأن هؤلاء ومثلهم لم يساهموا فقط في بناء حضارتهم، بل هم في الأساس أبطال مسرح أسمى أشكال النشاط الإنساني، وإرثهم يعود لجميع البشر٠

هؤلاء العمالقة هم أكبر مثال على أن المعارف البشرية ترتبط وتغني بعضها بعضًا. فلا توجد حضارة إغريقية نقية ولا عربية-إسلامية خالصة ولا غربية صافية ولا صينية محضة، إلخ. الحضارات الإنسانية مرتبطة ببعضها بروابط لا تقبل الكسر والتجاهل. وإنجازات الثقافات المختلفة تنتقل من مكان إلى آخر بطرق ومسالك عديدة أشبه بشبكة العنكبوت التي تؤثر كل نقطة فيه على الأخرى، بالرغم من أن هذه الشبكة تحاك حول مركز أساسي، وأحيانا حول أكثر من مركز. وهي لا تتطور في جزيرة منعزلة تغذي نفسها بنفسها. مثل هذه الجزر قد تنشأ، ولكنها غالبا ما تتوقف عن التطور أو حتى تندثر بعد وقت٠
قصة حضارتنا هي مثال لذلك، فقد ابتدأت جذورها في حضارات الشرق الأولى التي انتقل غناها لحضارة الإغريق (التي جذورها الحضارية في الحقيقة أقرب إلينا من الغرب) الذين طوروها وأحدثوا بها قفزة نوعية كبيرة لتعود مجددا، هي والمعارف الهندية والفارسية وغيرها، إلى مسرح الحضارة العربية الإسلامية التي أحدثت بها قفزة نوعية كبيرة أخرى ومن ثم لِتنتقل إلى أوروبا في عصر النهضة التي استفادت منها ومن غيرها من التأثيرات الأخرى الكثيرة. لهذه الأسباب، وكثير غيرها، علينا أن نعطي لكل جانب حقه٠
أما نصف إجابتي الأخر فهو "لا". أي أنه حتى لو سرق كوبرنيكوس كل أفكاره من العرب (وهو لم يفعل ذلك) فلم يكن هذا ليغير الحقيقة المرّة أنه منذ ذلك الحين، بل وقبل ذلك، والغرب في صعود ونحن في تراجع. في الحقيقة، فكرة أن الشمس هي مركز الكون لوحدها، كان مكتشفها من يكون، لا تعني الكثير. لأنها اكتسبت أهميتها مما فعله من لحق كوبرنيكوس بها، فهم الذين طوروها وحولوها لمفهوم متكامل عن الطبيعة، معزول عن الأفكار المسبقة لها. حثّت فكرة كوبرنيكوس هذه المجتمعات إلى طرح الأسئلة الفلسفية العميقة، وعدم التردد بتحكيم العقل. كما اعطاها الثقة بالنفس بأن لا تخاف من سبر غور المجهول واتِّباع الدلائل حيث تأخذها دون تردد، حتى لو تناقضت نتائجها مع أقدس معتقداتها. فهي فكرة واجهت الدوغمائية الدينية السائدة في حينه، وأدت إلى انتصار العقل والمنهج العلمي وأعطت الناس الجرأة على التساؤل والشك ورفض التزمت والانغلاق. فحتى وإن دانت هذه المجتمعات لحضارتنا ببعض إنجازاتها، فقد تطورت بالأساس نتيجة عمليات عميقة فيها أدت إلى تغيير مسار تاريخها. وهذه التحولات بدورها هي وليدة تجارب وصراعات وطموحات، وحتى في الكثير من الأحيان، أطماع هذه المجتمعات. باختصار، حدثت الثورة العلمية في أوروبا لأن مجتمعاتها، برغم الصعوبات، احتضنت التغيير وسمحت لعلمائها وفلاسفتها بأن يطلقوا العنان لأفكارهم من غير أن يخشوا العواقب، وهذا، لا نستطيع أن ندعي أنهم "سرقوه منا"!٠

التاريخ، إذا لم نتعلم منه، حتى وإن كان مليئا بأمجاد خالدة، هو مجرد تاريخ. في أوجها الفكري لم تخف حضارتنا من تبني أفكار الفلاسفة الإغريق ولا امتنعت عن دراسة أفكار الحضارة الهندية ولا ورفضت أفكار الفرس ولا ترددت بأن تعطي أي مفكر حقه بغض النظر عن دينه وأصله، ما ميزها هو انفتاحها وتسامحها والثقة بالنفس التي مكنتها من قبول الأفكار المختلفة. هذا هو طريقنا إلى الأمام وليس العويل والبكاء على ما سرق منا. بل علينا المضي قدما بأقدام راسخة عميقا في أرضية تاريخنا المجيد ولكن بقامات تناطح السحاب تنظر إلى الأمام بكل ثقة وعنفوان، من غير أن نخاف الانفتاح والتحدي وتحكيم العقل والتسامح والتعلم من الغير. فكما يصح أن نقول: ويل لأمة نسيت ماضيها، كذلك الأمر يصح أن نقول: ويل لأمة لا تفخر إلّا بماضيها!٠

النشرة البريدية

الرجاء تعبئة التفاصيل ادناه لتلقي نشرتنا البريدية